‏مذاكرة ناذرة للشيخ العلاوي - الاحتفال السنوي بمستغانم سنة 1931

هذا الاحتفال السنوي كان وقوعه عادة فى عاصمة الجزائر لأجل لتعارف والتآلف ولتحصيل الفوائد الجمة من المواعظ الحسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالخطب التي يلقيها علماء أجلاء وأدباء ‏ناهضون في ذلك الجمع الحاشد بالمؤمنين بالله ورسله.

وفي هذه السنة وقع في مدينة مستغانم بزاوية الفيلسوف الكبير الأستاذ ابن عليوة, وقد سنحت لنا الفرصة بحضوره وسافرنا مع ‏رفاق كرام من بلدنا فى قطار يوم الجمعة 7 أوت ليلا ووصلنا إلى بلدة مستغانم صبيحة غده, ودخلنا البلد وقد راق لنا موقعها وهي مقامة في ربوة ذات منظر بديع على ضفة البحر, وتنقسم إلى قسمين منفصلين وهما : حارة الإفرنج وحارة الوطنيين. فأما الأولى فهي في غاية النظام والثانية المسماة "تيجديت" فهي في غاية الإهمال وخصوصا طرقها الخربة خرابا كبيرا, يكفي أن المرء لا يستطيع الخطو فيها إلا بمشقة لأنها كلها حجر وغبار, وإذا ثار الريح عليها كما صادفناه, يطلع منها عجاج كبير إلى عنان السماء يملأ الأبصار قذى.

‏فيا ليت شعري كأن سكان تلك الحارة أو القلعة الوطنية لم يدفعوا ضريبة على الطريق كالمواطنين الآخرين, ولكن العتاب كل العتاب على أعضاء المجلس البلدي لأنهم حسبما حكى لنا بعض أهاليهم فإنهم متغافلون عن إصلاحها, ولو أنهم أرادوا ذلك الإصلاح لما صعب عليهم, ومع أن سكان الحارة المذكورة قد اشتكوا إليهم مرارا عديدة.

‏وصلنا الزاوية العلوية ذات المنظر البهيج, فوجدناها خارجا وداخلا وعلى اتساعها قد ملئت بآلاف المريدين الوافدين من جميع الأقطار وكلهم يلهج بذكر الله العظيم آناء الليل وأطراف النهار, ودخلنا رياضا أنيقا حول الزاوية العامرة مزدانا بالغرف البهية ذات النمارق المصفوفة والزرابي المبثوثة والكراسي المرصعة بالصدف اللامعة...

فدخلنا إحداهن وكان بها الأستاذ الحاج أحمد بن عليوة جالسا مع ‏بعض السادة ترتسم على وجوههم سمة الطهر والعفاف, فتلقونا بالترحيب وجلسنا معهم ثم أخذنا نتجاذب أذيال الكلام في مواضيع مختلفة مهمة. وكانت تلك المحاورة تتدفق من أفواههم حلوة لذيذة تترجم عن صفاء سريرتهم. ثم انتقلنا إلى الحوض في موضوع آخر يتعلق بالاجتماع.

وقد تكلم حضرة الأستاذ بكلام هذا مغزاه:

‏"إن الغرض الوحيد من الاجتماع هو التعارف والتآلف وبث ‏النصائح والإرشادات فيه, ‏وإنه ينتج منه, لو تدبر الإنسان, خير عميم وثواب عظيم, ولكن الكثير من إخواننا, سامحهم الله, لا زالوا يجهلون سر الاجتماع وقد هجروه هجرا غير جميل, وكان الواجب عليهم أن لا يتأخروا عن حضوره ليتبن لهم الحق بعد ما يدركون حقيقته عيانا وتظهر لهم فوائده العظيمة, وما بعد العيان بيان.

ومن المخجل, بل مما يؤسف عليه, أن بعضهم, عفا الله عنهم يسعى بكل قواه في تعطيله, وذلك بعراقيل كثيرة لتثبيط العزائم, ولكن ينبغي الصبر عل كل حال حتى يأتي يوم يرجع فيه أؤلئك المعرقلون, ‏هدى الله رشدهم إلى الصواب..."

ومن جملة ما قاله بعد كلام طويل بما معناه:

أناشدكم الله تعالى أيها الإخوان إن رأيتم منا أو سمعتم عنا شيئا, فزنوه قبل كل شيء, بميزان الشريعة الإسلامية السمحة, فإن وافق فخذوه واعملوا به, وإن خالف كتاب الله وسنة رسوله الأكرم صلى لله عليه وسلم, فينبغي أن تبحثوا عنه, هل هو صدر منا حقيقة ؟ وبعد السؤال والمفاهمة نكون على صواب وقد نكون مخطئين في شيء فترشدوننا إلى السبيل الأقوم إذ لسنا بمعصومين, والإنسان محل الخطأ والنسيان, وإذا بينتم لنا خطأنا ولم نرجع عنه ورأيتموه مخالفا للشريعة الحنيفية الغراء فأنبذونا نبذ النواة والله تعالى يجازيكم عنا خيرا ويعوضكم بما هو أفضل منا, ففي أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الخير العميم, والأمر أمر الله والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

ثم من أعظم ما نعرضه ‏عليكم المواظبة على أوقاتكم المفروضة ونوافلكم وأذكاركم وعضوا عليها ‏بالنواجد, واشكروا الله سرا وعلانية يزدكم من فضله ويتقبل أعمالكم. واحذروا من الفرقة واختلاف الكلمة وشتات الآراء, وكونوا يدا واحدة في السراء والضراء, وعليكم في جميع الأمور بمزج الرأفة بالغلظة, واللين بالعنف, "وَاتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ, وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا"..." (آل عمران, 102-103).

وواصل الشيخ من مثل هذه المواعظ السامية الجليلة وتضرع إلى الله عز وجل أن يهدي عموم المسلمين إلى أقوم طريق وأن ينزع ما ران على قلوبهم وأن يجمع كملتهم و يوحد وجهتهم ويعلي كلمة الدين ويخذل جميع المبتدعين وهو يتولى الصالحين.

‏وقد قوبلت تلك المواعظ العظيمة بالاستحسان, وبعد قليل وفد ‏مشايخ أجلة من ذلك الوطن وممن عرفنا منهم: الأستاذ الطيب المهاجي, ‏والأستاذ ابن الشريف, العضوان في جمعية علماء الجزائر, والأستاذ الحبيب مفتي مدينة وهران, والأستاذ قارة مصطفى مفتي مدينة مستغانم, والأستاذ الحاج بالقاسم بن كابو, والأستاذ عبد القادر فرادي والأستاذ نور الدين المعسكري, وغيرهم من المدرسين الفضلاء, ومن عاصمة الجزائر الأستاذ السلفي صاحب المواقف العظيمة في ميدان الكتابة الشيخ السعيد أبو يعلى الزواوي وبرفقته جماعة من أفاضل العاصمة. 

وقد كان ذلك اليوم كبيرا وجرت فيه بين اولئك العلماء الأعلام مباحث علمية تتعلق بتعاليم الإسلام الراقية, كل ذلك والشيخ ابن عليوة ورغم ما يعانيه من المرض, تارة يحبذ قولا وأخرى ينتقده, وقد أكرموا وفادة الجميع إكراما لا يوصف, وتوجهنا كم من مرة إلى رياض بديع للشيخ ابن عليوة مقام على شاطئ البحر وفيه منازه جميلة وجلسنا هناك ‏وتعاطينا كؤوس الشاي على خرير ماء البحر.

وفي يوم الأحد بعد صلاة العصر وقع احتفال هائل أُلقيت فيه ‏الخطب العديدة في الاجتماع والتهذيب والإرشاد والأخلاق وتمَّ الاحتفال عند المغرب فى غاية الجلال والكمال.

وفي غده عند الزوال وقع أيضا احتفال هائل وهو آخر الاحتفالات, هذا ما رأيناه والسلام.


(ابن هاشم)


المصدر: جريدة البلاغ الجزائري- حول احتفال السادة العلويين, العدد 223 بتاريخ 28-08-1931

(بلقاسم)

تعليقات