سقاية الشاي للفقراء في الزوايا

هناك بعض الجموع في الزوايا يسقى اثناءها الشاي للفقراء لما في سقيه حكمة بالتأكيد, ومنها الزاوية العلاوية. ولنا هنا تساؤل: لماذا لم يختار الشيخ العلاوي رضي الله عنه الحليب لبياضه مثلا أو الماء لشفافيته؟

الشاي عند الشيخ العلاوي لم يكن مجرد شراب يُقدم للضيافة، بل كان رمزًا غنيًّا بالمعاني.

في كثير من الطرق الصوفية، ومنها الطريقة العلاوية، نجد أن الأدوات اليومية تُحمَّل بدلالات روحية. إليك بعض الإشارات التي قد تكون وراء اختيار الشيخ العلاوي للشاي دون الحليب أو الماء:

1. الشاي مركّب وليس بسيطًا:

الشاي يتكوّن من الماء، والنار (للغلي)، والنبتة (ورق الشاي)، والسكر أحيانًا. أي أن فيه عناصر الطبيعة الأربعة: الماء، النار، التراب (من النبتة)، والهواء (من البخار). هذا التعدد قد يرمز إلى تركيبة الإنسان نفسه، أو إلى مقام التلوين قبل التمكين.

2. مرارة الشاي مع حلاوة السكر:

الحياة الروحية فيها مرارة المجاهدة، وحلاوة المشاهدة. فكان الشاي رمزًا لهذا المزج، على عكس الماء (الشفاف الذي لا طعم له)، أو الحليب (الذي يغلب عليه الطابع اللطيف أو الأبيض النقي). فالشاي يقرّب صورة الطريق أكثر.

3. الحرارة:

الشاي يُقدَّم ساخنًا، وقد ترمز حرارته إلى حرارة الحب أو الشوق إلى الله. الصوفية كثيرًا ما يتحدثون عن حرارة الذكر وحرارة المحبة.

4. التواضع والبساطة:

الشاي شراب شعبي متواضع، وليس من رموز الترف. وهذا يناسب روح الفقر والتواضع التي تميّز التصوف الحق، بعكس الحليب الذي قد يُنظر إليه على أنه طعام الأغنياء أو الأطفال.

5. الاجتماع والمجالسة:

جلسة الشاي عند العلاويين ليست فقط للضيافة، بل هي لحظة أنس وذكر وتلاقٍ روحي. وهي قد تكون امتدادًا لمعنى "الصحبة" الصوفية.

الشيخ العلاوي، كشأن كبار أهل الذوق، لم يكن يختار شيئًا عبثًا، وكل شيء عنده له مقام ومغزى. وربما ترك الشاي لنا إشارة إلى أن الطريق ليس دائمًا أبيضًا نقيًّا (كالحليب)، ولا دائمًا شفافًا مفهومًا (كالماء)، بل هو مركب، مرّ أحيانًا، حلو أحيانًا، وساخن على الدوام.

إضافة إلى ذلك، يعتبر الشاي ماء، والعلماء الآن يدركون أن للماء ذاكرة حيث تتغير طاقته بناءً على الوعاء الذي يحتويه… فما هي الشحنة التي يحملها ذلك الكوب الذي تُذكر عليه الأسماء والصلوات على الحبيب؟

من الناحية الكيميائية، يُعد الشاي من أقوى مضادات الأكسدة التي تعزز من مناعة الجسم وتحميه من الأمراض، وخاصة الأمراض الخبيثة، عافانا الله وإياكم منها.

إضافة إلى ذلك، يُشرب الشاي ساخنًا… ومن المعروف في علم "بسيكولوجيا الخدمات" أنه إذا أردت أن يظهر من تتعامل معه كرماً وسخاءً، قدم له طعامًا أو شرابًا ساخنًا.

شرب المريد الشاي الساخن في حلقات الذكر يزيد من مدته وعطائه وسخائه وكرمه ووجدانه.

الشاي هو الرابط المشترك بين كل من حضر الجمع… الجزء الذي يتشارك فيه الجميع في هذا الجمع هو تلك الكأس… فهي مثل خيط السبحة الذي يربط بين حباتها. نفس المادة التي تروي خلايا أجساد الحضور... وتصبح الطاقة المشحونة في الشاي تملأ الأجواء كلها.

حتى في طريقة سقيه وتعليمه، حيث يبدأ الساقي بالشيخ أو المقدم أو المسير أولاً، ثم يأتي دور بقية الحضور. لا يبدأ الفقراء في شرب كؤوسهم إلا بعد أن يبدأ الشيخ.

وفي الختام، آخر كأس يُقدّم هو كأس الشيخ. البداية والنهاية / الأول والآخر.

ويشرب المريد كأس الشاي بآداب، دون أن يزعج سكينة الجمع. ولا يُرجع الكأس دون أن يشربه بالكامل. بعض الفقراء ينهون حتى عن رفض شرب كأس الشاي في الجمع.

نعمة، والله، هي كأس شاي الجمع. نعتقد، في جهلنا، أنه مجرد شاي، ولكنه في الحقيقة ليس مجرد شاي.

وفي الأخير لماذا لم يختار الشيخ العلاوي رضي الله عنه القهوة !!!؟؟

الشيخ العلاوي رضي الله عنه، كما هو معروف في سيرته وأقواله، كان له اهتمامات خاصة واهتمام كبير بروحانية الأمور، وتوجيه الناس إلى أرقى درجات الصفاء الروحي. عندما لم يختار القهوة في تفضيله لشرب المشروبات، فإنه ربما كان يقصد شيئًا أبعد من مجرد طعم أو تأثير المكونات الكيميائية للمشروب. القهوة في بعض الأوقات قد تكون محملة ببعض التوتر أو الزوائد التي يمكن أن تثير النشاط المفرط في الجسم والعقل، وهو ما قد يعارض حالة السكون والصفاء الذهني والروحي التي يُفضّلها الشيخ العلاوي عكس الشاي تماما فهو غالبًا ما يُنظر إليه كشراب يُحفّز الذهن بشكل هادئ ويسهم في تنشيط الذاكرة، ويعزز من حالة التأمل والتركيز التي يحتاجها الشخص الذي يسعى للروحانية. الشاي قد يكون له أثر مهدئ ومناسب للجلسات الروحية والتجمعات التي تسعى لزيادة التواصل مع الله سبحانه وتعالى، حيث يساهم في الاسترخاء والتفاعل الروحي بين الحاضرين.

وبالتالي، اختيار الشيخ العلاوي للشاي بدلًا من القهوة قد يكون نابعًا من كونه يعتبره مشروبًا يعزز من الأجواء الروحية والتأملية التي كانت سائدة في مجالسه، ويعكس كذلك قيمة الهدوء الداخلي الذي يتناسب مع الهدف الروحي للذكر والتأمل.

هناك قصيدة "القهوة واللاتاي (الشاي) للمدني التركماني المغربي وهي محاكاة فنية تجمع بين الفكرة الرمزية والتوصيف الحسي للقهوة والشاي (اللاتاي). القصة تدور حول القهوة واللاتاي اللذين يتوجهان إلى قاضي ليحكم بينهما بسبب الاختلافات بينهما. القهوة تدافع عن نفسها وتصف فوائدها الصحية وخصائصها التي تساعد في علاج الأمراض وتبعث الراحة في النفس، بينما اللاتاي يعبر عن مكانته الخاصة وتفضيله لدى الناس، مشيرًا إلى أنه ليس مجرد مشروب عادي بل له قدرة على تعزيز الذاكرة والنشاط.

في النهاية، يحكم القاضي بأن كلا المشروبين لهما مزايا خاصة بهما، ويعترف بفائدة كل منهما في أوقات مختلفة ووفقًا للحالة النفسية والجسدية للشخص. القصيدة تحمل معاني رمزية حول التوازن بين الأشياء في الحياة، وتبني على فكرة أن كل شيء له دور ومكانة في حياة الإنسان. كما تبرز قيمة الصبر والحكمة، وتدعو إلى الاعتراف بفضل الآخرين سواء كان ذلك في المشروبات أو في الحياة اليومية.

تعليقات