مولاي سليمان بن المهدي الودغيري

الشيخ البركة سيدي مولاي سليمان بن المهدي الودغيري من قبيلة بني بويفرور. قال عنه الشيخ عدة: "هو ممن سلك الطريقة وأدرك معناها وعمل بمقتضى تعاليمها".
 
أصله ومسقط رأسه وبدايته

هو أستاذنا وشيخنا وقدوتنا العارف بربه والدال عليه مولانا الشريف الشيخ مولاي سيدي سليمان بن مولاي المهدي ابن اليزيد بن محمد بن عمر بن محمد بن العباس بن أبي القاسم ابن محمد بن علي بن موسى بن عيسى بن عبد الرحمان الودغيري بن يعلا بن عبد العلي بن أحمد بن محمد بن أعمار بن سليمان بن محمد بن مولانا إدريس دفين فاس بن إدريس فاتح المغرب بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن بن سيدنا عليّْ وسيدتنا فاطمة الزهراء بنت سيد العالمين صلى الله عليه وسلم.
 
كان والده سيدي مولاي المهدي في الأصل بقبيلة القلعية عمالة الناظور, كان يركب على الفرس وله حظ وافر في الفروسية, وكان معظماً عند كافة الناس وعند القبائل ولا سيما قبائل الريف, وكان يصلح بينهم ويؤلف بين قلوبهم, وكانت أيام الحروب والفتنة تقوم بينهم وهو يقدم عليهم ويطفئ نار الفتنة. 
 
وكان له سطوة عظيمة بين رجال وقته, إذا تكلم صمتوا وإذا أمرهم فعلوا, وكانت داره دار الضيافة والكرم يتكرم على كل من قصده, وكان الزوار يلتمسون منه الدعاء الصالح. 
 
وكان هكذا ما شاء الله ثم انتقل إلى قبيلة الحياينة من عمالة فاس وتزوج بها واستوطنها وولد له سيدي هاشم ثم بعده ولد الشيخ سيدي مولاي سليمان. ثم رجع إلى قبيلة القلعية وترك الولدين مع أخوالهما بالحياينة وغاب عنهما سنين, ثم زارهما لأول مرة ولم تطل إقامته عندهما ثم رجع لبلاده. 
 
ولما بلغ الشيخ سيدي مولاي سليمان عشرون سنة من عمره بعث إليه والده رسالة يستدعيه فيها للحضور عنده, فقدم إليه وزوَّجه بأرملة أخيه المتوفي سيدي مولاي الحسن الذي كان قد توفي من قريب العهد, ثم رجع الشيخ إلى مسقط رأسه الحياينة مصحوباً بزوجته.
 
ولما بلغ من عمره نحو ثمانية وعشرين سنة ذهب مع بعض الفقراء الدرقاويين لزيارة الشيخ سيدي عبد الرحمن الدرقاوي حفيد سيدي مولاي العربي الدرقاوي نزيل وقته ببوبريح من قبيلة بني زروال وكان ذلك سنة خمس عشرة وثلاث مائة وألف "1315هـ, 1898م". وكان الشيخ أصغر الفقراء, ولما وصلوا إلى الشيخ سيدي مولاي عبد الرحمن الدرقاوي جعل يقول: "مرحباً بالحبيب مرحباً بالحبيب" كأنه يشير إليه وأجلسه إلى جنبه وسأل عنه الفقراء, ثم لقنه الورد العام.

حياته الصوفية واتصاله بشيخه الأول 
 
وعقب انتسابه للطريقة, رجع لبلاد والده قبيلة القلعية حيث أقام بها واستوطنها واجتهد في العبادة وراوض نفسه وجاهدها حتى بلغ مبلغ الرجال, وقد قام بالطريقة الدرقاوية بالجد والحزم والاجتهاد, وكان طبعه السياحة على مجامع الإخوان, وكان الجمع في داره أينما سكن, وكان يرتحل إلى سكان القرى, من قرية إلى أخرى, وجميع الفقراء معه أينما كان يجتمعون عليه لذكر الله, وكان يقول الأناشيد حيث حفظ أناشيد جميع الصوفية, وله صوت قوي ويذاكر بالقوة والجد والحال, لا يتكاسل في الذكر ولا يمل. 
 
وكان يصاحبه للسياحة جماعة من الفقراء, ومنذ خروجهم لا يفتر لسانهم عن ذكر الله, ويسهرون الليالي بالذكر والمذاكرة إلى صلاة الصبح. وكان رحمه الله يطالع كتب الصوفية وله ذوق وحلاوة فيها خصوصاً رسائل الشيخ سيدي مولاي العري الدرقاوي, كان يقرأها على الفقراء بصوت عال وبالحال. وعاشر رحمة الله أخيار العلماء, وكان من طبعه يسال عن أمر دينه ويحفظ ويعمل, وكان يتردد على شيخه في الزيارة المرة بعد الأخرى من القلعية إلى بني زروال على قدميه ومعه جماعة من الفقراء, كان شغلهم ذكر الله والجلالة في الطريق وسفرهم كان بالمرور من قبيلة إلى قبيلة إلى بني زروال. 
 
وكان شيخه سيدي عبد الرحمن يجله ويعظمه ويسميه فحل الطريق, وقد زار شيخه في مدة صحبته خمسة وعشرين مرة. قال سيدي مولاي سليمان رحمه الله تعالى: "كنت جالسا على جنب سيدي مولاي عبد الرحمن, فوضع يده على كتفي في وسط جماعة الفقراء وقال لهم: "هذا فحل الطريق, قولوا جميعا... والله هذا فحل الطريق", فقالوا جميعا: "والله فحل الطريق". وقال مرة رحمه الله: ""كنا عند الشيخ سيدي مولاي عبد الرحمان أيام الاحتفال فاستأذناه للسفر, وشيَّعنا وكنت على جنبه أمام الفقراء, وسألته قائلا: ""سيدي هذه الطريقة فيها معرفة الله ونطلب نصيبا من ذلك", فقال لي: "وأنت اذكر الله حتى تأتيك معرفة الله ", فعرفت إشارته للمستقبل".
 
وكان لسيدي مولاي سليمان رحمه الله سطوة عظيمة في الطريقة الدرقاوية, حيث كان الإخوان كلهم يحبونه ويعظمونه إذا جلس بينهم أو حضر في جمعهم, ويقول الأناشيد الصوفية, وكان يعز الوقت بذكر الله ولا يتكلم في أمر الدنيا ولا يحب أن يسمع للإخوان كلامهم فيما لا يعني بمحضره. وهكذا كان حاله واجتهاده في الطريقة الدرقاوية البوبريحية.
 
وعندما توفي شيخه مولاي عبد الرحمن, رحل لمستغانم للأخذ عن الشيخ أحمد سيدي العلاوي وكان السبب في ذلك اتصاله بالولي الصالح المرحوم برحمته الواسعة الشيخ سيدي محمادي بالحاج الطاهر, فقد اتصل به في بعض سياحته وذكر له الشيخ العلاوي وأوصافه وأحواله وعلمه الظاهر والباطن, ثم أعطاه ديوانه المنشود بلسان حاله فتلقاه بتلهف وشوق كامل, فجعل يقرأه وينتعش معناه حتى غاب عن حسِّه ووجوده وعن هذا الكون كله إلى أن صار لا يعقل شيئا من الكائنات ونزل به أمر عظيم, ثم حملوه إلى فراشه بدون أن يشعر بما حلَّ به وبما فعلوا به, فلما أفاق وجد نفسه مشتاقا لملاقاة صاحب الديوان صاحب الفيوضات الربانية الشيخ العلاوي رضي الله عنه.
 
وذكر عن نفسه أنه كان إذا فكَّر في الذهاب إليه قويت عليه الواردات والخواطر, بعضها تحول بينه وبين ملاقاة الشيخ وبعضها تشجِّعه, يقول الشيخ سيدي مولاي سليمان: "وبينما أنا على هذا الحال والخواطر تتوارد عليَّ إذ رأيت ليلة في منامي الشيخ سيدي مولاي عبد الرحمن الدرقاوي يقول لي: "هات رسالتي التي عندك", فأخرجتها له واستلمها بيده, ثم وقَّع عليها بإمضائه ودفعها لي".
 
فلما استيقظ عبَّر الرؤيا بالإذن في تجديد الطريقة, وإن الذي أهْتَّمَ به فيه خير له, فتأهب لزيارة الشيخ العلاوي وأخذ معه رفيقاً وذهب لمشاورة الشيخ سيدي محمادي بالحاج وكان مسجونا في مدينة مليلية وقتئذ, فلما دخل عليه في السجن وجد معه جماعة من الفقراء, ففرح الشيخ سيدي محمادي فرحاً فوق ما يتصور, فاخبره بأنه عزم على الذهاب لمستغانم لملاقاة الشيخ العلاوي ولتجديد نسبة الطريق عليه, فزاده بهجة وفرحاً وسروراً على تلك الملاقاة العزيزة المشتاقة, فبادر بقرطاس ودواة وسجل له رسالة ودفعها له وأكَّد عليه وقال له: "مَكِّنها بيد الشيخ", ثم صاحبهما من داخل السجن وشيَّعهما إلى خارج السجن, وكان مسموحاً له في ذلك كما ذكرت في ترجمته سابقاً, فلمَّا أراد أن يفارقهما عانقه وضمه إلى صدره ضمَّة المحبة والوداد وكثرة الصداقة والمدد. 
 
فذهب سيدي مولاي سليمان ورفيقه إلى ما قصدا, فلما وصلا إلى مدينة مستغانم دخلا لملاقاة الشيخ سيدي أحمد العلاوي.
 
يقول سيدي مولاي سليمان عن تلك الملاقاة: "وجدت معه بعض الفقراء وبعض العلماء, فلما دخلت عليه, سلمت له رسالة الشيخ سيدي محمادي, ففرح بالرسالة فرحاً شديداً, فلما فتح الرسالة قرأها ثم شخَّص بصره فيَّ, وقال لي: "أن الشيخ سيدي محمادي يثي عليك خيراً كثيراً ويوصي بالاعتناء بك, فمرحباً بك", قلت له: "يا سيدي طريقتكم تحتاج إلى المهر, ونحن فقراء ليس لنا ما نؤدي به المهر", فقال لي رحمه الله: "قال تعالى:  ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ (التوبة, 60), فقالت له: "يا سيدي جئناكم لنأخذ منكم معرفةً معها السلامة", فلمَّا سمع الشيخ مني هذا الكلام رفع يديه وكل الحاضرين فقال : "اللهم ارفع الحجاب عن إخواننا".
 
فسقاه بنظرته ففاضت عليه الأنوار وشعر بحياة أخرى جديدة روحانية تغشى قلبه. 
 
وكان اتصاله بالشيخ العلاوي لأول مرة سنة خمسين وثلاثمائة وألف "1350هـ, 1932م", وكان له من العمر ثلاث وستون "63" سنة, فهكذا تكون صحبته لسيدي مولاي عبد الرحمن الدرقاوي رحمه الله تعالى خمساً وثلاثين "35" سنة.
 
وبقي في صحبة الشيخ سيدي أحمد العلاوي يتردد على زيارته المرة بعد الأخرى وازداد جداً واجتهاداً ومجاهدة وعبادة. وعند اتصاله بالطريقة العلاوية أدرك فيها سراً عظيماً في مدة قريبة لم يدركه السابقون منه بسنين عديدة, وقد أشار في بعض الأبيات من قصائده المجموعة في ديوانه إلى لحظة اتصاله بشيخه سيدي العلاوي قال في مطلعها:
 
فقد سقاني الطبيب العلاوي قطب الحبيب    أيقظني من نومي وكنت عنه غافل
سقاني بنظرة من فيض كرامته    بشوقي لرؤيته فـصرت عنه ذاهل
وقفت في بابه وشوقي لقربه    تمسكت بالذل في جنب لقائه
وقفت في حماه بفقري واحتقاري    دنوت من قربه بالذل وانكساري

وكان رحمه الله في غاية الاستقامة في حياة شيخه سيدي العلاوي إلى أن توفي رضي الله عنه.
 
ثم لزم خليفته ببلاد الريف العارف بالله الشيخ سيدي محمادي بالحاج, وكان في صحبته في زاوية بني علي كما كان معه بمدينة مليلية بزاويته الموجودة حتى الآن, وكان يرافقه عند حضوره ويزوره عند غيابه عنه ويحضر دائماً في مجامعه وتجري بينهما مذاكرات طويلة. وكانا أحيانا يخرجان من الزاوية ويجلسان يتذاكران من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الصبح, وكانت حياتهما سعيدة وأيامهما طيبة, وكانت المذاكرات بينهما تدور حول علوم الإشارة والحقائق لأن مشربهم كان واحداً, ولذلك كانا رحمهما الله لا يحبان الفراق عن بعضهما حتى قال له الشيخ سيدي محمادي: "أريد من فهمني وفهمته ألا يفارقني ولا نفارقه".
 
وكان الشيخ سيدي محمادي يقدم من مليلية إلى الناظور مراراً لملاقاته وللمذاكرة معه في تلك المذاكرات التي لا تقوم الطريقة إلا بها, وكان يأذن له للسياحة, فخرج مع جماعة من الفقراء من قبائل الريف لنشر الطريقة وتذكير الفقراء والإصلاح فيما بينهم ويوضح لهم مسالك الطريق بالرفق وحسن الخُلق, وبذلك سلب قلوب الفقراء الذين سبقوه للطريقة بحلمه إلى أن أخذوا بصحبته يأخذون منه أحوال الطريقة وأخلاق التصوف. وكان يقول له الشيخ سيدي محمادي: "جزاك الله عنَّا خيراً, لقد حملت عنا عبئاً ثقيلاً في الطريقة".
 
وهكذا بقي في صحبة هذا الخليفة الشيخ سيدي محمادي إلى أن توفي رحمه الله تعالى ورضي عنه. 
 
استقلال الشيخ سيدي مولاي سليمان بالخلافة
 
ويعد أن توفي الشيخ سيدي محمادي بلحاج رحمه الله تعالى ورضي عنه, استقلَّ بنفسه وانخرط في سلك طريقته أكثر الفقراء ورجع إليه أفراد الطريقة ولزموه واجتمعوا عليه وسلموا له الإرادة لما كانوا يلمسون فيه الصلاح والاستقامة والاجتهاد في الطريق ولزوم رسومها, ودخل كثير من الناس الطريق على يديه حتى أصبحت القبائل المجاورة لمدينة الناظور تزخر بأصحابه وأتباعه.
 
وكان رحمه الله يخرج للسياحة إلى جميع قبائل القلعية ويصحب معه بعض الأفراد للطريقة وجماعة من الفقراء, فإذا نزل بقرية من القرى أمر الفقراء بذكر الجلالة بأعلى صوت, فإذا وصلوا إلى ديار الفقراء دخلوا بالذكر جماعة بصيغة واحدة بمدائح نبوية كقولهم:
 
يا عين الرحمة محمد, يا عين الرحمة سيدي أحمد, يا عين الرحمة محمد, صلى الله عليك يا سيدي

وعند دخول المنزل, إذا وافق الدخول وقت صلاة من الصلوات أدوا الصلاة الفرضية أولاً, وإن لم يوافق شرعوا في العمارة أو الحضرة, فهكذا كان وصفه لدخول منازل الفقراء.
 
وكان رحمة الله عليه يقول أناشيد الحضرة, وله ميزان ونغمات وصوت حسن جوهري, فإذا حضرت الصلاة صمتوا وأمر المؤذن أن يؤذن في باب المنزل, فاذا ختم الأذان تقدم بنفسه للصلاة أو يأمر بعض الفقراء للتقدم, فإذا تمت الصلاة قرأ سورة الواقعة ثم دعاء الشيخ (العلاوي) ثم اللطفية, وبعدها يشرع في الذكر ثم القيام للحضرة. وإذا أذن له بالخروج, خرجوا كذلك بالذكر جماعة وبصيغة واحدة وبصوت واحد وبمدائح نبوية كما فعلوا في الدخول, وهكذا كانت حالته وحياته إلى أن لقي الله تعالى. 
 
ولا زالت تلك الحالة والعادة والسيرة الحسنة التي كان عليها بين الإخوان إلى الآن, وكان رحمه الله ذا أخلاق كريمة وشمائل طيبة, وكان عابداً زاهداً متواضعاً ورعاً كريماً حليماً شفيقاً على الضعفاء, ويحب كثرة الجلوس مع الفقراء ويتذاكر معهم بالرفق وحسن الموعظة, وكان كثير البشاشة لم يضحك أبدا بالقهقهة إلا بالتبسم كما كان عليه النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم, وكان ينصح في ذات الله ويبذل جهده الواسع في النصائح لا تأخذه في الله لومة لائم, وكان معرضا عن الدنيا ومقبلا على الله وعاملاً للأخرة وملازماً للتجريد لا يملك شيئاً من الدنيا, وإذا وجد شيئاً في يده أنفقه على الإخوان. 
 
وكان وصفه الجود والكرم, وكان صدره متسعاً منبسطاً ولم يكن ضيقاً ولا غاضباً ولا فظاً ولا غليظاً, ولكن كان ليناً شفيقاً حليماً صابراً راضياً بما قضاه الله, متوكلاً على مولاه, دائم الصمت خاشعاً ناصحاً لعباد الله تعالى, يصحب الفقراء بلين ورفق فلا يغضب على أحدهم إذا أساء في حضرته ولكن يذكره برفق, وأهم شيء كان لديه إقامة الصلاة, وكان يأمر بها وبالمحافظة عليها في أوقاتها كثيراً حتى أنه كان إذا حضر وقت الصلاة نادى وسط الدار أهله وأولاده "الصلاة, الصلاة ". وكان إذا رأى من أحد أولاده تضييعاً للصلاة غضب غضباً شديداً حتى لا يقوم لغضبه شيء, وكان يأمر كل من أتاه بالمحافظة على الصلاة ويقول "من ضيعها فليس منًا ولسنا منه", وكان يرشد إخوانه إلى الإكثار من ذكر الله تعالى والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويقول لهم: "إذا صليتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سمعتم شمائله شخِّصوا صورته الشريفة في أذهانكم واستحضروها في قلوبكم لتعظيم محبته في قلوبكم, فإذا عظمت رأيتموه بتوفيق الله تعالى".
 
وكان رحمه الله يذكِّر الفقراء بقرب الموت والإقبال على الآخرة ويأمرهم بتعلم أمر دينهم ويقول لهم: "أسألوا عن الفرائض والسنن وحققوا عبادتكم لأن الله تعالى العليِّ العظيم لا يعبد بالجهل وإنما يعبد بالعلم والمعرفة". وكان رحمه الله يحب المذاكرة في علم الإشارة والحقائق وله ذوق وحلاوة فيها, ويحب أن يسمع إنشاد الحقائق ويقول: "من لم يفهم هذه المذاكرة ولم يبحث فيها, فهو معدم لم يُخْلَق عند القوم".
 
وله رحمه الله تعالى قصائد في الطريق تشتمل على حقائق ومعاني رقيقة, وله حكم وكلام مؤثر, وقد نظم نحواً من مائتين وأربعين "240" قصيدة في التوحيد والحقائق الإلهية وعلم الإشارة والمدائح النبوية, وكان يقول رحمه الله تعالى: "من تفكر في هذه القصائد وأمعن النظر فيها وجال بفكره في معانيها, جاءه الفتح من قريب لأنها تقوم مقام الاسم المفرد".
 
ومن أخلاقه الكريمة أنه كان إذا حضر في مجلس بعض المنكرين سكت ولزم الصمت ولا يتكلم أبداً, وإذا أنكر عليه أحد لا يجيبه, وكان إذا حضر إليه حفظة القرآن يكرمهم ويحترمهم ويأمر الفقراء باحترامهم, وإذا جاءته هدية دفعها إليهم تعظيما لحملهم القرآن العظيم.
 
 ومن خصائصه الحميدة أنه إذا أرادا التحدث توضئ في حينه سواءً من ليل أو نهار, وتلك هي خاصية المؤمن الصادق, وكان يلقن الفقراء الاسم المفرد زيادة على الأوراد العامة للطريق, وكم من واحد فتح الله بصيرته على يديه وتطهرت سريرته بنظرته إليه, وكان طبيب النفوس ومربي القلوب عارفاً بعيوبها, وكان يطيل الجلوس في محضر الفقراء ويأمرهم بكثرة الذكر ويقول لهم من الحكم والوصايا تتأثر بها القلوب فمنها:
 
- "أكثروا من لا إله إلا الله حتى تلين بها ألسنتكم وتتآلف عليها قلوبكم"
- "إن الغفلة عن الله هي أعظم المصائب, وإذا غفل الفقير عن الله استولت على قلبه وساوس الشيطان"
- "إذا حضر الذكر ذهب البأس, وإذا غفل الفقير عن الذكر حضر اليأس"
- "الجمع رحمة والفرقة عذاب, فاذا اجتمع الإخوان فهم في عز ونشاط, وإذا افترقوا كانوا في ذل وإهانة".
- "إذا لزم الفقير الجمع مع إخوانه جاءه الفتح من ربه, وإذا تخلَّف عن جمع إخوانه أخذه الشيطان ولعب به بين أقرانه ".
- "إني أكره الفقير الصامت عند المذاكرة كراهة بالغة, الفقير بالمذاكرة كالماء الجاري, والفقير بلا مذاكرة كالماء الحابس"
- "تذاكروا في طريقتكم مدة حياتكم, لأن المذاكرة روح الطريق, الطريقة بلا مذاكرة كجسد بلا روح"
- "استحضروا المحبة والأفكار, الفقير بالمحبة طيَّار, والفقير بلا محبة سيَّار, المحبة تطوي المراحل ما لا تطويه الأعمال"
- "الفقير المحب للدنيا لا ينتج منه شيء, والفقير إذا استولى عليه الحسّ أخذ قلبه وجوارحه, وإذا أخذه ذهب مع الذاهبين, فأجرنا وأجره على رب العالمين".
- "ذكر الله نار يحرق المساوئ ويهذب الأخلاق ويبدل الأوصاف المذمومة بالأوصاف المحمودة الحسنة".
- "من لم يكن في الزيادة فهو في النقصان, ومن كان في النقصان فالموت أولى به".
- "من عظَّم الإخوان استمدَّ منهم وفاز فوزاً عظيماً, ومن استحقر الإخوان خذلته نفسه وخسر خسرانا مبينا".
 
وكان رحمه الله كثير البكاء, فاذا سالت عيناه بالدموع جعل يمسح الدموع على وجهه ويقو: "هذا بكاء المحبة".
 
وكان رحمه الله يحب الخمول ولا يحب الشهرة أو الرفعة, وكان كل من جالسه مهموماً مقبوضاً لا يقوم من عنده إلا فرحا مسروراً, وأكثر ما كان يقول في سؤاله وتضرعه إلى الله: "يا رب فرطنا وضيعنا حقوقك فاقبل علينا بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين يا رب العالمين".
 
وكان رحمه الله إذا أقبل عليه الإخوان بالجلالة "لا إله إلا الله" يفرح بها ويقول: "مرحبا بالفرح والسرور, لا إله إلا الله", ويقول: "يكون يوم ورود أهلها عليكم يوم عيد ويوم سعيد ويوم غنيمة".
 
وحكى يوما كرامة وقعت له فقال: "كنت جالساً يوماً من الأيام تحت شجرة فإذا برجل أقبل عليَّ وهو طويل القامة ووجهه أحمر وعليه ثوب مزوَّق وألوان مشكلَّة, فلمَّا رأيته وتحققت فيه ونظر إليَّ, غُشِيَ عليَّ, فلمَّا أفقت من سكري لم أجد الرجل, وصرت أفكر من هو هذا الرجل فجاءني, وارد وقال لي: "هذا هو الخضر عليه السلام".
 
وكان رحمة الله عليه يهتم كثيراً بأمور المسلمين, يفرح لفرحهم ويحزن ويتأسف لما يصيبهم وينزل بهم, وإذا سمع بنزول محنة ومصيبة أصابت المسلمين, دعا وأمر الإخوان بإخراج اللطفية, وإذا بلغه موت مسلم ذكراً كان أم أنثى أمر الإخوان بالاجتماع فيخرجون له الفدية ثم يدعو معه بالرحمة والمغفرة.
 
وكان في أخر حياته قد ضعف جسمه وذهبت قوته, فذهب مرة ليتوضأ فسقط على الأرض فتكسرت رجله اليسرى, فلزم من ذلك فراشه وجعل الإخوان يحملونه بينهم إذا أراد الخروج للزاوية وهو رضي الله عنه على هذه الحالة العاجزة عن القيام, ومع ذلك يأمر بالخروج للسياحة أو غيرها. 
 
وبالجملة, كان رحمه الله ورضي عنه من الممثلين للطريقة الصوفية الحقيقية وخصوصاً الطريقة العلاوية التي امتازت عن غيرها بامتثال بعض السنن النبوية التي عمل بها الشيخ العالم الجليل والقطب الرباني الأصيل سيدي أحمد العلاوي, كوضع اليد على اليد في الصلوات المفروضة والنافلة, وكذلك الهيللة عقب التسليم ثلاثاً وغيرها من السنن. وعلى الرغم من تأخره عن الأشياخ المتقدمين قام بالامتثال بالعمل بها بهيأتها وقواعدها بأحسن قيام لم يغير منها ولو شعرة واحدة على ما أدركه من زينة الدنيا وزخارفها فبقي صامداً ثابتاً إلى آخر عمره رحمه الله. 
 
وصيته ووفاته رحمة الله تعالى عليه آخر حياته من الدنيا الفانية 
 
كان رضي عنه في آخر أيامه بعد المائة "100" سنة, لا يقدر على الأكل ولو شيئا من الطعام لكثرة ضعف جسمه النحيف وذهاب قوته إضافة على تكسر رجله اليسرى. وكان الفقراء لا يصبرون على تفقد جسمه الطاهر من بين أظهرهم, فكانوا يأتون إليه ويحملونه بينهم ويخرجونه للزاوية ويضعونه بينهم ويتمتعون بالنظر إلى وجهه المشرق بالنور الوهَّاج وينتعشون بهيأته الممتعة, فتنشرح صدورهم به وتنهض أحوالهم وتخشع قلوبهم وتهتز أرواحهم برؤيته للعالم الأسنى, وعلى ذلك تأسس جمعهم, ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
 
 فلما دنا أجله المحتوم رحمه الله تعالى وأحسَّ بقرب وقت السفر الدائم, وما كان قد بقي من عمره إلا ثمانية أيام كما تحقق ذلك الموعد بالواقع, استدعى حفيده القاضي الفقيه سيدي الحاج العربي الورياشي رحمه الله, فلما حضر بين يديه أدَّى له وصية موضحة تحتوي على ثمانية نقاط:
 
1. أنت تغسلني بيديك والذي يصب لك الماء هو الفقيه الكزناي هو حامل القرآن ومعه رجل من الصالحين وهو سيدي علي.
2. فإذا غسلتموني وحنطتموني فادرجوني في الكفن وأدخلوني للزاوية وأخروني في النعش إلى يوم الجمعة ليجتمع ويترحم عليَّ الإخوان والأخوات.
3. أعلموا الفقراء, ويبلغ الشاهد منكم الغائب أينما كانوا في جميع القبائل ليشهدوا جنازتي ويصلون علي ليكثر الدعاء والترحم.
4. لا تدفنوني قبل الجمعة فيكون الدفن يوم الجمعة بعد الصلاة, وأمر الفقيه هو الذي يصلي عليه.
5. أن يحفروا له القبر داخل الزاوية الكبرى جهة الأيسر, لأن ترابه لين فيسهل عليهم الحفر.
6. وصَّى على زوجته فقال: "كل ما هنا في هذا البيت الذي أنا ساكن فيه من الأثاث وغيره فهو هدية لها, فمن أخذ لها منه شيئاً خاصمته يوم القيامة أمام الله".
7. قال فيها: "ما تركت في هذه الدار إلا "لا إله إلا الله سيدنا محمد رسول الله", فلم أترك فيها شيئاً من الدنيا ولا المال, فمن أراد أن يذكر الله تعالى فليفعل, ومن أراد شيئاً أخر كان من المعتدين.
8. وصَّى الفقيه على ذلك الرجل وهو العبد الضعيف اليزيدي (المؤلف صاحب هذا الكتاب) قال له: "هو الذي يكون إماما لزاويتنا للصلاة بالفقراء لأن معه نصيباً من القرآن وله إلمام ومعلومات بمصالح الزاوية".
 
وهكذا انتهت وصاياه النيرة الموجهة سامعها وواعيها والعامل بمقتضاها ومن خالف أمرها فلا يلومن إلا نفسه, فكان رحمه الله تعالى من أعلام مشايخ الشمال الشرقي من مغربنا فلا ثاني له في حياته. 
 
توفي رضي الله عنه على الساعة الخامسة من يوم الخميس 17 شوال عام 1390هـ, 17 دجنبر سنة 1970م, وله من العمر مائة عام وثلاث "103", رحمة الله تعالى ورضي عنه. 
 





تعليقات