المقدمة
يمكن تلخيص سيرة الشيخ بن عليوة (أحمد بن مصطفى) في بضع كلمات, لن تشكل سيرته أبدًا سوى قصة أفكاره.
ولد الشيخ بن عليوة في مستغانم عام 1872م (والأصح هو 1874م) من عائلة بسيطة ماديا. بدأ بالعمل مبكرا, عمل أولا في إصلاح الأحدية "إسكافيًا" ثم انتقل إلى التجارة "بقالًا", أفلس حوالي عام 1908م, ثم أعاد الكرة (عام 1909م) في فتح محل لبيع الجلود (مع ابن عمته وصديقه بن سليمان بن عودة), وحقق أخيرًا بعض الأرباح. في تلك الأثناء كان (مريدا) يتابع دروس دينية تحت إشراف الشيخ البوزيدي من الطريقة الدرقاوية, وهو عالم مشهور حيث كان الشيخ بن عليوة تلميذه المفضل.
عندما توفي الشيخ البوزيدي عام 1909م سافر الشيخ بن عليوة إلى المشرق (هنا وقع المؤلف في خطأ فادح لا دليل لديه سوى تخمينه الشخصي حين صرح أن الشيخ كانت غايته من السفر طلب المعرفة عند حكماء السند والهند وبلاد فارس واستغرق سفره سنوات).
عند عودته, استقل عن الدرقاوية وأسس طريقة تحمل اسمه, كان نجاحه باهرًا وسريعًا حيث تميز بتأسيس زاويتين مهمتين في مستغانم والجزائر العاصمة, وإدارة جريدته الأسبوعية باللغة العربية "البلاغ الجزائري".
كان محبوبا بكيفية متشددة من طرف أتباعه. تعرض لهجوم عنيف من طرف خصومه الوهابيين (الإصلاحيين) وحتى من بعض شيوخ الزوايا (التبركية). كان يُلقن عقيدة مربكة (للبعض) أُعْتُبِرَتْ بالنسبة للكثير (من الأوربيين) إنجيلًا حديثًا, حيث كان لديه تلامذة أوروبيين زيادة على العدد الكبير من المنتسبين الجزائريين أقل ثقافة بالنسبة للأوروبيين. قام بدعوته ببلاغة نادرة ومعرفة واسعة, تلك الدعوة التي لم تكل أبدا وكانت مثمرة لدرجة كبيرة, كان مفعولها كالشحنة الكهربائية حيث في غضون أيام قليلة كانت تستولي على قلوب سكان قرى بأكملها.
لكنه انتهى به المطاف إلى أن أصابه الإنهاك بموجب نشر هذه الرسالة بالقلم والكلمة, والضعف البدني بدافع الزهد المتواصل والحرمان الشديد والمقصود. توفي الشيخ بن عليوة في مستغانم في 14 تموز / يوليو 1934م. ما زلنا إلى الآن مندهشين من نجاح دعوته.
ومع ذلك, فإن (أتباع) الطريقة الدرقاوية التي انتسب إليها والذين عارضوه, كانت منظمة بقوة في الغرب الجزائري. هناك فرع في أولاد المبخوت بالمشرية, وفرع في مستغانم, وزاوية بمعسكر, وكذلك بأولاد لكرد بتيارت, وأولاد بن إبراهيم بتاخمرت اٍحدى بلديات تيارت, وزاوية تيرسين ولاية سعيدة. كما توجد فروع سنوسية تابعة للشيخ بن تكوك في نفس الحي (تجديت) بمستغانم.
رغم المعارضات والهجمات التي تعرضت لها الطريقة الجديدة فإن قوتها الدافعة كانت كبيرة لدرجة أنها جنت انتصارات هائلة ابتداءً من عام 1920م.
كان الشيخ بن عليوة قبل عام 1914م مجهولا على نطاق واسع (ما عدا بلدته والمناطق التي بها زواياه) حتى ظهر نجمه بالآفاق فجأة بعد الحرب العالمية الأولى ليصبح في غضون بضعة أشهر أحد أعظم الشيوخ الجزائريين. هذا النجاح لم يكن أساسا بسبب تعاليمه بقدر ما كان يشع من هيبته الشخصية.
كان الشيخ بن عليوة ضعيف المظهر, كان ينبثق منه إشعاع استثنائي وجاذبية لا تقاوم. لنظرته الذكية والمستنيرة جاذبية فريدة تكشف عن مهارة طبيب القلوب والقوة الخالصة الوثيقة التي يتمتع بها. إنه لطيف جدا ومهذب ومتواضع, جميع أحواله تشير إلى أنه ميال للتسامح, إنه حقق بشكل يثير الإعجاب مضمون الولي الصالح العارف بالله. نشعر من جانبه إرادة صلبة وحدَّة لطيفة التي في لحظات قليلة ينهي من خلالها موضوع حواره.
يتصادف أن يكون الرجل الديني المغاربي واقعيًا ويفكر في نفس الوقت تفكيرا عقائديًا, متشككًا ويفكر كذلك تفكيرا عقائديًا, إيجابيًا وزاهدا. فمن خلال هذه الظاهرة "البُوفَارِيَّة" وهي الهُرُوب مِن الْوَاقِع, والتي هي سمة تخص بالتحديد بعض أولياء الله في الإسلام, ولكن هذا الأمر لم يكن ينطبق على الشيخ بن عليوة.
لا أحد يستطيع التشكيك في صدقه, في أمانته الروحية. كان إيمانه فياضا ومتواصلا مع الغير في ألحان متدفقة. لكنه احتفظ في نفس الوقت بإحساس قوي بالعمل الفعلي واستخدامه الفوري. كان ينتمي إلى هذه الفئة من الأرواح المتكاثرة في شمال إفريقيا والتي يمكن لها أن تمر دون مرحلة وسيطة من الحلم إلى التصرف, من استحالة التقدير إلى الحياة, من التحرك العظيم للأفكار إلى النظر المجهري في سياسة فرنسا نحو سكان البلاد الأصليين.
هذه النفسية الخاصة بشيوخ الزوايا تربك تحاليلنا. إنها تندفع من هذا المنطق الداخلي الذي يربط القدر بالتعويل على الإرادة الشخصية, والمتعة الشهوانية الشرقية بالأخلاق العالية للإمام الغزالي.
عرفت الشيخ بن عليوة من عام 1921م إلى عام 1934م, واكبت تقدمه البطيء في السن. كان فضوله الفكري ينضج كل يوم إلى أن تلفظ أنفاسه الأخيرة, كان أحد المتحمسين لتقصي الغيبيات. جاب كل المسائل وقليلا منها التي لم يتطرق لمعالجتها, ولم يكن هناك أي موضوع من الفلسفيات الذي لم يستخلص منه جواهره. لكن حماسه الروحي وتقشفه الصارم اختصرا بالتأكيد أيام حياته. في نهاية عمره, لم يكن سوى صورة مجردة توحي بالكبرياء, منغلق ورافض للحياة.
رسم لنا أحد المعجبين به (ومن أتباعه أيضا) السيد فريتجوف شوان (عيسى نور الدين أحمد), صورة تعبيرية لا تُنسى:
" كان عليه جلباب بني داكن وعلى رأسه عمامة بيضاء, مع لحية فضية, ونظرة مطَّلعة, وأيادي طويلة كأنها ثقلت بفعل تدفق بركاته, كان ينبعث منه شيء من البيئة العتيقة والصافية من زمن سيدنا إبراهيم الخليل (عليه السلام) ... كان صوته وديع للغاية, كأنه شبه محجوب, ولا يتكلم إلا قليلا وفي جمل قصيرة... بصوت كأنه زجاج متصدع, يلقي كلماته, قطرة, قطرة. وكان لصوته نبرة استسلام وزهد, وبدا لي أن الأفكار التي ينقلها لنا صوته كأنها تجليات رقيقة وشفافة جدا, ذات ذكاء واعي لدرجة أنه لا يمكن لها أن تتشتت في تيار التقييد... عيناه كأنهما مصباحين مطمورين, لا يبدو أنهما يشاهدان شيئا دون الانقطاع لشيء ما, ولكن الكل بالنسبة لهما حقيقة واحدة متمثلة فيما لا نهاية عبر الأشياء, أو ربما لا شيء في مظهر الأشياء. نظرته منتصبة, صعبة شيئا ما بسبب جموده المبهم ولكنها مليئة بالشفقة... وغالبا ما كانت عيناه تتسع فجأة كأنه أصابتهما دهشة أو جذبهما مشهد رائع. كأن إيقاع الأناشيد والاهتزازات وشعائر العبادة لا تفارق باطنه الذي يتأرجح دون توقف. في بعض الأحيان كان يهز رأسه هزاً باطنيا بينما قلبه مستغرق في الأسرار المطلقة للأسماء الإلهية أثناء الذكر. يجتابنا انطباع بحالة وهمية من ناحيته حين يبدو بعيدا عنا, منغلقا, غير مدرَك في كل بساطته المجردة, كان محاطا بالتبجيل الذي يجب نحو الأولياء الصالحين, لأمير القبيلة, للشيخ الكهل, وللمحتضر". (انتهى). هكذا كان الرجل, ها هي عقيدته:
العلوم العقلانية
تردد الشيخ بن عليوة حول هذه التساؤل: "هل نعرف الله بالعقل أم بالقلب؟". باختصار, أرسطو أم أفلاطون, ديكارت أم باسكال , تاين أم برغسون؟ علامة استفهام على عتبة باب كل مدرسة دينية... (هنا تناول المؤلف موضوع الفلسفة والفلاسفة في الإسلام فيما يخص مسألة: هل معرفة الله تتم بالعقل أم بالقلب...).
لم نزعم, من خلال هذه الاقتباسات القليلة, أن نعطي صورة ولو مختصرة عن الصراع الذي يواجه الإسلام الإيماني بالإسلام العقلاني. ولكن فقط لتحديد مفترق الطرق حيث كان للشيخ بن عليوة وقفة, مثل جميع المفكرين الدينيين. يبدو أنه بعد تأمل قصير, اختار عمدًا المسار الصعب الذي يحيد عن المسار المستوي, المنطقي والسهل.
يقول الشيخ بن عليوة ناقلا عن شيخه سيدي حمو الشيخ البوزيدي:
العالم اللامتناهي أو عالم الإطلاق (بالمعنى الصوفي) الذي نتخيله خارجا عنا, فهو عكس ذلك, إنه عالم خارجي وفي نفس الوقت هو موجود بذاتنا. في الحقيقة لا يوجد سوى عالم واحد, هو هذا. ما نعتبره العالم المحسوس (عالم الشهود) العالم المحدود أو الزمني, هو مجرد مجموعة من الحجب التي تخفي العالم الحقيقي. هذه الحجب هي حواسنا, أعيننا حجاب عن البصر الحقيقي, وآذاننا حجاب عن السمع الحقيقي وكذلك حجب الحواس الأخرى. لإدراك وجود العالم الحقيقي, فمن الضروري إزالة هذه الحجب التي هي الحواس…. فماذا يبقي من الإنسان إذا؟ يبقى شعاع طفيف يبدو له على أنه صفاء وجدانه…. هناك تواصل بين هذا الشعاع والنور العظيم لعالم الإطلاق …. لما يتم إدراك ذلك, يمكن لنا (من خلال الذكر والفكر) أن نسبح بطريقة ما ونضمحل في عالم الإطلاق ونندمج معه, لدرجة أن الإنسان سيدرك أن لا وجود سوى لعالم الإطلاق فقط, وأنه "أي الإنسان المتبصر" موجود فقط على صورة حجاب. بمجرد أن تتحقق هذه الحالة, كل أنوار عالم الإطلاق يمكن لها إذا أن تخترق روح الصوفي وتجعله يشاهد التدبير الإلهي ..., فيحق له أن يصيح: ... الله! أما العقل الخالص فهو غير كافٍ لمعرفة الألوهية, فمن الضروري الحصول على إشراق البصيرة, أي توسيع الوعي, ليتيح الإدراك بالقلب ما اكتسبه العقل.
بالنسبة للشيخ بن عليوة, ومعظم العارفين, يجب الاجتهاد لاتصال الفكر مع الحق الذي لا شريك له. عقيدة الشيخ بن عليوة صعبة, لكنها تكشف للمريد الجوهر الإلهي بطريقة كاملة. سيصل بعد ذلك إلى درجة المعرفة الصوفية والمعنى واليقين, كما تهدف إلى فتح بصيرة المريد والتي ستسمح له باكتشاف الغيبيات, وتغرق عينيه بماء المعرفة الإلهية, حتى لا يرى في الوجود إلا الله, ولا وجود له إلا سواه. هذا الاستيعاب, الذي لا يسمح به إلا فن التصوف, والذي هو بالتالي فن خاص, يتضمن عدة محطات التي يجب اجتيازها. السكرة الروحية للشيخ بن عليوة هي الوصل المتكامل للروح مع الحق.
جاء في ديوانه ضمن قصيدته "يا من تُريد تذري فنّي":
والأصل منّي روحاني *** كنتُ قبلَ العبوديّة
ثم عُدت لأوطاني *** كما كنتُ في حرِّيّة.
فتبيت الروح حينئذ في شهود مؤبد, بعد الفناء التام عن الحواس, حتى يصل المتأمل إلى درجة يتجاوز بها نفسه, فيقول الشيخ بن عليوة ضمن قصيدته "مُريداً بادِر بِقَلبٍ حاضِر":
قلبي يا قلبي, افهم عن ربِّي *** احفظ لي حبي, هوَ, هوَ اللَه
قلبي لا تغفل, عظِّم وبجل *** إيّاكَ تعجَل, تفشي سرّ اللَه.
إن هذا المستوى الروحي للإنسان بالنسبة إلى المعرفة الإلهية, لا يصل إليه إلا عدد قليل من المنتسبين. رأى الشيخ بن عليوة أنه أحداً منهم. كان الأب الروحي الحاضن للأرواح, المستنير بنور الله, ووجود الشيخ بن عليوة في زماننا هذا نعمة من الله….
يقول الشيخ بن عليوة أنه كان بإمكانه الاستغناء عن مهمة الإرشاد على الله والتربية والسلوك كما هي عادة شيوخ السلسلة الشاذلية, إلا أن النبي محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم أمره بشديد اللهجة بالإرشاد على الله وكلفه بمهمته. إذا فإن النبي محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أضفى الشرعية على سلطته, وليس سلسلة النسبة الشاذلية فقط.
ووصل إلى مرتبة الغوث, التي هي أقصى المراتب في هرم الأولياء. كان يقول "إنه عظيم الصوفية في عصره", مستدلا على حديث "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها", حيث أعلن الشيخ بن عليوة أنه إمام زمانه بعد الشيخ الدرقاوي ضمن قصيدته "مُريداً بادِر بِقَلبٍ حاضِر":
صرَّح يا راوي, باسم العلاوي *** بعد الدرقاوي *** خلَّفه الله.
وفي قصيدته اللامية يقول:
ولو نظر الإمام نور جماله *** لسجد إليه بدلا عن القبلة.
في إحدى الليالي كان الشيخ بن عليوة في سكرة من سكراته الروحية, فسمعه أحد مريديه يردد:
أقدم يا مريد التحقيق *** فأنا بواب العرفان
ومرة أخرى:
أنا الحق الحقيقي *** تجلى في صورة إنسان.
كان الشيخ بن عليوة من أحد الأفراد الذين يتمتعون بمشاعر غيبية نادرة. كان ينتقل بقفزة واحدة إلى قمم سامية في ميدان علم الوجود الكوني. كان إبداعه الكلامي استثنائي للغاية, حيث كان يجرد المعنى, أو الإشارات الصعبة, ويجعلها في ثوب واضح يبدد به عجز الأفكار عن الإدراك.
كان الشيخ بن عليوة يقول في مجالسه الخاصة: "الله "مثل" نور صاف, وشعاع نوره ينير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشعاعه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنارني بدوري, وكلما نزل ذلك الشعاع على الإنسان, على الحيوانات والنباتات والمعادن, يصير ثقيلًا بسبب كثافة المادة. ولكي نجد مجددا في أنفسنا جوهر ذلك الشعاع, فمن الضروري إذابة تلك المادة بنار الحب المشتعلة. إن البخار والماء والجليد مادة واحدة, تعطي للخالق وتجلياته في الكون صورة قريبة بما فيه الكفاية".
لقد أتيحت لنا الفرصة لعرض للشيخ بن عليوة مختلف منظومات فلسفية للمؤلفين الغربيين, ففهمها تمامًا. لكنه كان يتذوق بالأخص كتابات "هنري برغسون" في علوم ما وراء الطبيعة التي تتناول علم الغيبيات, والذي تأسف كثيرا على عدم قدرته في استيعاب استرسال الفيلسوف في منطقه الفلسفي. بالمقابل, كان يستوعبه بدءًا من عرضه الكلامي, كان يدرك أدق التفاصيل ويترجمها على الفور من خلال صورة مبهرة. وهكذا علق على التمييز المشهور بين ميزة الذكاء والحدس الغريزي الذي وحده قادر على إدراك الحياة قائلا: "محراث الفلاح حلَّ مكان قلم الطالب". أسعده كثيرا التفسير الذي قدمه "هنري برغسون" حول سفسطة الإيليين, حيث كان يستخرج إشارات بارعة من المفارقة الشهيرة لـ "سهم زينون".
أعمال الشيخ بن عليوة المكتوبة لا تأتي بأي تباين جوهري في العدالة الإلهية في الإسلام. حيث قال: "أن الواجب الديني يتمثل بالنسبة لك, أيها البالغ, في الإيمان الصادق بوجود الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقضاء والقدر". فبينما أن معظم العلماء المسلمين الذين فهموا من الدين كل ما هو ظاهر فقط, لعدم إدراكهم كل ما هو باطن, وصل الشيخ بن عليوة بصعوبة إلى إدراك المفهوم الأرسطي للكائن الأسمى (الذات المقدسة), الصافي, المطلق, المنزه عن كل تجسيم معنوي أو مادي, فهو مختص بالتنزيه عن كل صفة. يقول الشيخ بن عليوة: "إن الله منزه تنزيها مطلقا, له الكمال المطلق الأزلي الذي لا يتطرق إليه النقص بأي وجه من الوجوه, لم يلد ولم يولد, بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص, لا يشبهه شيء من المخلوقات في شيء من الصفات جملة وتفصيلا, ليس كمثله شيء, وهو السميع البصير".
امتنع الشيخ بن عليوة عن طرح المسائل العزيزة على الفلاسفة العرب من حيث المكنون والجوهر والسببية. لقد رأى أن هناك تلاعبًا طفوليًا بمنطق العقل, وكان يبتسم لتلك الحيل الفلسفية. ولإظهار حماقة ذلك, ردد ذات يوم قوله الذي نقلناه: "تلك محاريث تريد أن تحرث السماء".
وإذا استخف بالسفسطة المعتادة لكلام الفلاسفة المسلمين, فقد كان مهتمًا بشدة بتفكيرنا الفلسفي الغربي. لقد ذكرنا مسبقا تذوقه لـكتابات "هنري برغسون", قال إنه يتصور مسبقا الصياغة الأساسية قبل أن يعلمها.
في الواقع, إن ملاحظاته تثرى بذكريات غريبة. لقد فهم جيدًا التفرع للتطور الخَلقي, "الذي أراده الله تعالى إذا لم يكن (ذاك التفرع) هو الله نفسه", بفطرة مسبوكة على الحياة وذكاء مطبق على المادة, متكافئان في الجوهر مع المادة, ولكنهما بالتالي غير متناسبان بالنسبة لحقيقة الذات المقدسة.
أن يجد العقل راحة في الماديات فهذا أمر بديهي, لكن الغيبيات فهي مغلقة أمامه ولا تفتح فقط إلا على الحدس الفطري. ومن هنا, يتابع الشيخ في حديثه, الخطأ الكبير المتمثل في نقل الأساليب الهندسية للعقل إلى ما يمكن فقط للقلب اكتشافه بإذن الله. على الرغم من إعجابه الشديد بالعلوم العقائدية حيث لم يكن لديه أي شك في صحتها من عدمه, إلا أنه اعتبر أن الفكرة العقلانية للإله ستظل دائمًا منحازة إلى التجسيم. من هو على حق, الزهرة التي تتصور الله كعطر, أم أرسطو الذي يتصور أن الإله يتعقل ويفكر ولكنه لا يعقل إلا ذاته إلى الأبد؟ أرسطو والزهرة يتبعان نفس المنهج: أحدهما يؤله أفكاره والآخر رائحته. وخلص الشيخ (بن عليوة) إلى أن كلاهما على حق, لأن الله هو كل شيء, وكل جزء من الخليقة لا تفتح له سوى زاوية ضيقة للرؤية.
هناك تأثير آخر وحديث على الشيخ بن عليوة, وهي: "نظرية أو فرضية "برغسون" التي تجعل من علم الكلام سببا للضغط والتجفيف, وجمودا للشعور. سيولة الحياة تتجمد بالكلمات. يتابع الشيخ بن عليوة قائلا: هناك 100 إسم من أسماء الله, لا نعرف منهم سوى 99 اسم فقط, ولو عرفنا الاسم 100, سينهار العالم على الفور. لأن هذه الكلمة الفريدة التي لم تُلفظ قط, لم تجمد بعد الشعور الذي يوصل إلى الله. وهذا الشعور, إذا تم كشفه فجأة, فسينفجر بغتة, ويفجر الكون". نجد هنا التحويل الإسلامي لمفهوم غربي.
يبدو أن الشيخ بن عليوة قد فكر في المسألة التالية لفترة طويلة: تم تفكيك أفكار المكان والزمان في وقت مبكر وتشريحها بعناية, أولاً عن طريق العلم الماورائي اليوناني, ثم من خلال علم النفس الذي له معكوسه على علم النفس الماورائي. ولا شك أن الفلسفة الإسلامية لم تتجاهل هذا الأمر, ولكن مرة أخرى مع وجود أخطاء غريبة في المفردات, استخدمت مغالطات عديمة الفائدة للتوفيق بين المفهوم الأرسطي للزمن الأبدي بدون بداية, والمبدأ الإسلامي للزمن الذي خلقه الله.
بقي الشيخ بن عليوة, بالنسبة لمفهومه عن الزمان والمكان, في التقليد الفلسفي. اعترف بأن الوقت لا يمكن إلا أن يكون ذاتيًا. وهكذا حافظ على نفسه في الثلم الذي فتحه الغزالي وابن سينا. لكنه تجاوزها في بعض الأحيان. لقد فهم تمامًا, دون أن يجلب معها التصاقًا نهائيًا, نظرية "كانت" للمقولات. لم يكن هنا اختراعه الفلسفي مخطئًا أبدًا, كما في أي مكان آخر.
أوضح لنا ذات يوم أن الله يدرك دون أي شك التزامن ما نراه نحن في التعاقب. لكن على الرغم من ذوقه "لبرغسون", لم يبدو لنا أنه قد أدرك تمامًا نظام المدة الزمنية "للأنا", للوقت المكاني والهندسي الذي بقي, كما نعلم أنه أحد أكثر المبادئ الأصلية التي كتبها "برغسون".
الأعمال المكتوبة للشيخ بن عليوة لا تحمل أي أثر لتوغلاته في الفلسفة الحديثة, إما اعتبرها غير مناسبة أو خطيرة, أو رأى فيها نوعًا من التملص على طريقة "رينان". كان يتقاسم أفكاره الفلسفية ويتناولها خلال المحادثات الشخصية مع أصدقائه الأوروبيين فقط. كان يظهر حماسه لاجتهادات العقل العويصة, حيث كان كلامه الفلسفي الأفلاطوني أنيق ورائع وكانت مخيلته مندفعة ومتألقة في غاية التفاوت, يحل بضربة من جناح في مناهج صعبة. ومن شدة تحمسه للأفكار كان يفرض ذلك عليه أن يهدأ من حماسه لها ويوفق ما بينها ثم يجعلها في تركيب فسيح المعاني تشير إلى المحبة الإلهية.
العمل العقائدي والديني
1. العقيدة والتطور
كيف استطاع الشيخ بن عليوة أن يوفق بين إيمانه بوحدة الوجود وبين نصوص القرآن والأحاديث؟ كيف تمكن, من كونه من علماء السنة أن يوفق بين ذلك؟
وحدة الوجود؟ كان دائما ينكر ذلك. ولكن, كما لاحظنا, هناك نوعان من نظرية وحدة الوجود. أحدها ذو معنى سطحي, ظاهر المعنى, بالكلمات أكثر من أن تكون عقيدة, والمعنى الآخر باللاوعي, متفشي, كل ذلك في احتمالات دون أن تتجلى بشكل صريح, والتي تحدد مسارات العقل وتضفي النظريات عليه. ونظرية الشيخ بن عليوة من ضمن النوعية الثانية.
لقد نسق بشكل مثالي بين الإله الجوهري والانبثاقي مع الإله بالمفهوم الإسلامي. كانت تأويلاته مرنة بقدر ما كانت رشيقة. اعترف في مجلس محصور من الحاضرين "أن معاني القرآن لها عدة تأويلات". كان يشنأ من التفسير الأدبي الخانع للعلماء الجزائريين. وكان يجد في الكتب المقدسة تسلسلاً كاملاً للمعنى. تجاوز في تأويلاته الداهية والمتموجة والمغامرة أحيانًا, عقبة الكلمة تمامًا. كانت (تأويلاته) تستخرج الروح (من الكلمة).
اعترف بأن "الحقائق السامية هي هبة إلهية للخاصة من الناس, وأما بالنسبة للعامة, فمن الضروري عدم إذاعتها إلا تلميحا على أساس عقولهم وأخلاقهم". وهكذا انضم إلى فئة ابن رشد وابن طفيل والغزالي... .
تبنى الشيخ بن عليوة هذه العقيدة. كان يؤمن بتعدد التأويلات, من التأويل الحرفي إلى المجازي. كان يعتقد أن معاني النص موضوعة في طبقات, الواحدة فوق الأخرى, وتلك التي بالطابق السفلي, إذا جاز التعبير, موقوفة على فهم العوام من الجمهور. لقد استمتع بشكل خاص لكلمات "رينان" التي نقلناها إليه: "لقد أعطينا الله قالبا غنيًا من المرادفات ... الله, الروح... والكثير من الكلمات التي يمكن للإنسان تفسيرها بمعاني راقية".
قال الشيخ بن عليوة: "إن ما أؤمن به كمسلم, أنقله كمفكر إلى الفكرة, وبصفتي صوفيًا عارفا بالله, أراه في انسجام الأجسام الكروية. ومعتقداتي الثلاثة, المتناقضة كما تبدو, فهي واحدة (في المعنى)".
كان يكن إعجابا شديدا لرواية ابن طفيل (حي بن يقظان), حيث كان يردد منها هذه الجمل: "فانفتح بصر قلبه وانقدحت نار خاطره وتطابق عنده المعقول والمنقول, وقربت عليه طرق التأويل, ولم يبق عليه مشكل في الشرع إلا تبين له, ولا مغلق إلا انفتح, ولا غامض إلا اتضح, وصار من أولى الألباب". وكذلك: " ولم نخل مع ذلك ما أودعناه هذه الأوراق اليسيرة من الأسرار عن حجاب رقيق وستر لطيف ينتهك سريعاً لمن هو أهله، ويتكاثف لمن لا يستحق تجاوزه حتى لا يتعداه".
بالنسبة إلى الشيخ بن عليوة, إن للكتب المقدسة تأويلات متعددة, حيث تختلف التفسيرات من جيل إلى آخر, وتتطور العقائد كتطور الإنسان, بينما تظل مطابقة لجوهرها الأزلي. كان يردد كلام سيد علي محمد الشيرازي المشهور بـ "الباب": "لقد تجاوزت عالم الكلام منذ زمن طويل". إننا كما نرى, في حداثة عصرية كاملة. إن التصوف يشمئز من أن ينغلق على مفاهيم جامدة, بل يضخمها بروحه المتوقدة, ويفيض بها وفي النهاية يبددها.
إن الإيمان المعنوي للشيخ بن عليوة, وزهده المحترق, يسير جنبًا إلى جنب مع ما سوف نطلق عليه "النبوة التطورية", الكمال الذاتي للوحي الإلهي ... إن الأنبياء, الذين هم أدوات الوحي المتوالية, يكمن فيهم الروح والعقل, حيث خلق الله المادة الأولى والكون ... وكل منهم أتى بجزء من الحقيقة إلى أن انتهت المهمة بختم الرسالة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. (تم حذف مغالطة للكاتب حيث نفى ختم الرسالة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وذلك بتخمين مفاده أن هناك من يمكن تجاوزه معرفة, وذلك لتأثير الشيخ بن عليوة عليه ولجهله لحقيقة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم).
الشيخ بن عليوة, الذي لم يخف إعجابه بسيد علي محمد الشيرازي المشهور بـ "الباب" وتلاميذه. اعتقد الشيخ نفسه, بعد "الباب" والدرقاوي, أنه (ممثل) آخر رسالة نبوية. ولكن مرة أخرى, بينما كان يفكر في كون أفكاره عالمية, كان يفكر في نفس الوقت بمنطق إسلامي فحسب. مع تقدمه في السن, شدد على أطروحته عن نظام من المعتقدات المتراكبة, بينما يتداخل بعضها البعض, ابتداءً من التجسيم المكثف إلى الصور الخشنة ثم إلى المثالية الأكثر صفاء.
الدعوة الإسلامية
كان الشيخ بن عليوة أحد أقوى المدافعين عن المذهب السني, حيث أبدى حماسًا شديدا لتطهير الإسلام الجزائري من الجراثيم الطفيلية التي أصابته تدريجياً عبر جريدته الأسبوعية "البلاغ الجزائري", والذي كان يعد مضمونها بدقة ويقوم بتصحيح ومراجعة كل مقال ينشر. لم يتوقف الشيخ عن محاربة الخرافات التي كان يمارسها بعض شيوخ الزوايا التبركية وخاصة أنهم كانوا يذيعون وسط الأغلبية الأمية, جراثيم الشعوذة والخرافات وبعض الممارسات التي غطت شيئا فشيئا الإيمان الحقيقي بسلوكيات الجاهلية, مثل عبادة القبور. ثم إن اللغة العربية كانت مهملة وفي آخر قائمة انشغالات الهيئة التربوية (للاستعمار الفرنسي). فكان الشيخ العلاوي من السباقين الذين نادوا لإدراجها وتجديدها. وكثيرا ما كان الشيخ ينادي بالعودة إلى إسلام الصحابة, إلى إسلام قريب العهد من النبوة, الذي لم يتجمد بعد من أعمال الفقهاء الذين أتوا من بعد.
بصرامته الفريدة, وإحساسه الشديد بالدفاع (عن الدين) وبفضل قريحته الاستثنائية في المجادلة, انتفض الشيخ بن عليوة ضد ضعف الإيمان وفتور المسلمين الجزائريين. يمكن للمرء أن يقرأ عبر مقالاته مختارات إرشادية شديدة اللهجة:
"وأنت أيها المؤمن, نصحي لك أن تحافظ على إيمانك وأن تكابد في دعوتك إلى الله... ولا يغرنك التمويهات العصرية, ولا يغرنك بالله الغرور... وإني لا أظنك تتنازل عن ذلك الحظ لرأي السفهاء من الناس الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا, فنصيحتي لك أن تصبر على إيمانك وأن تدافع عن دينك بكل ما في وسعك ولا تولي دبرك للظالمين منهزما...." (ترجم المؤلف النص ترجمة خاطئة حيث جاء فيه: من الأفضل لك أيها المؤمن أن تموت في سبيل الإيمان من أن تعيش في جهل تام).
"الإسلام يشكو لله شجوه, بكى شجو الإسلام من علمائه, فما اكترثوا لما رأوا من بكائه, فلو أن للإسلام لسانا وشفتين لرأيناه وسمعناه قائلا: رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين. يقول ذلك لعدة دواهي ألمت به ومصيبته في أبنائه أعظم, أولئك الذين أهانوه وأضاعوه بدون ما يعرفون أي شيء أضاعوا. أضاعوا عزهم وشرفهم, أضاعوا مجدهم وكرامتهم, أضاعوا دنياهم وآخرتهم"...
"إن حال المسلمين اليوم... آلوا بعد تفريطهم في التمسك بمبدأ العقيدة الشريف إلى تفرق مذل وجهالة مطبقة وضلال بعيد... بل هم فاقدو وسائل الاستعداد للاحتفاظ بالنزر الباقي لهم في شرف الدين والدنيا مع وفرة العوامل المناوئة لهم المحيطة بهم من كل مكان, تتربص بهم الدوائر وتتحين لهم الفرص إلى أن تسلبهم ما بقي لهم من حشاشة دنيا وشرف دين, لا قدر الله, إلا أن يتداركهم الله بلطفه وهو سبحانه المسؤول لكشف الكروب عمن صح التجائه إليه"...
"إن وجود الضعف الساري بين طبقة المرشدين... الأمر الذي كاد أن يربط الخاصة بالعموم, فضروب الغفلة مستحكمة في كل بحسابه"...
يا لها من احتجاجات ضد الغفلة المعاصرة من ناحية الدين!
كان الشيخ بن عليوة يدين بشدة المدنية العصرية التي تهمل الجانب الروحي, والتي تفتن شيئا فشيئا قلوب المسلمين, فكان يكشف ذاك الداء بعدم البصيرة والجهل, واللذان يمنعان الأنوار الإلهية عن القلب, والعناصر السلبية لهذه (المدنية العصرية) نعتها "بيجي" بـ "عوامل إزاحة الروحانية".
إن هجمات الشيخ الشديدة لم تشمل الأهالي فقط, بل أيضًا العلماء قبل كل شيء. في الوقت الحاضر, يظهر الحكام المسلمون أكبر قدر من الغفلة في كل ما يتعلق بالدين, لذلك يمكننا القول إنهم يتسببون في ضرر للإسلام أكثر من الأجانب نتيجة لإهمالهم وتقصيرهم, فإن أي شخص يريد السخرية من الدين أو الإضرار به يمكنه فعل ذلك دون خشية.
إن هذا الفيلسوف (الشيخ بن عليوة) الذي رأيناه حريصًا على علم الغيبيات الجوهري, والذي فهم (كتابات) "الباب" (المعقدة) وحرم (على نفسه قراءة) الأدبيات السطحية, فإنه يهاجم التأثير السلبي الذي سببه تغريب العقول والأعراف. لا يعني ذلك أنه ينفي أفكاره عن التوليف الديني الواسع, لا أبدا, بل كانت أطروحته الرشدية (أي المطابقة لنظريات ابن رشد) دائمًا هي أن العقيدة الشعبية, والفكر الأسمى للفيلسوف وبداهة المنتسب, تعتبر كلها أشكال مراوغة للحقيقة, وأن إضعاف أحدها هو إضعاف الباقي (فالحقيقة مراوغة جداً لأنها تعرف أين يمكنها التخفي). لكنه في النفس الوقت عارض وضع القبعة على الرأس ولبس البنطلون, والعادات والفكر والحياة الأوروبية بصفة عامة, رغم أنه كان يشيد مرارا بالتقدم الأوروبي.
"واندفع شبابنا مع هذا التيار (الغربي) فظنوه الصواب وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى وصل هذا الشباب في أخلاقه إلى درجة الإسفاف المشينة".
إن الرثاء المتعدد الشيخ بن عليوة, أخذ إيقاعًا نبويًا, حارب بكل ما أوتي من قوة التأثير الغربي, ولكي يصل صوته للأهالي المسلمين, اتخذ أسلوبا نثريا مندفعا وجياشا, محتدما بالصور المتضاربة. كانت حملته ضد تجنيس السكان الأصليين, تحمل لهجة أدبية شديدة, حيث قال:
"إن التجنيس يمثل خطرا حقيقيا وخسارة أكيدة للهوية الإسلامية, لأنه يمس بالإيمان وقانون الأحوال الشخصية".
وأردف قائلا:
"أيها الشعب, حتى اليوم حافظت على وحدتك وجنسيتك الجزائرية وشخصيتك. لقد بقيت حتى يومنا هذا وفيا لدينك. إن تمسكك بالإسلام جعلك في مقدمة الدول الإسلامية. لقد ورثت الماضي المجيد, ماضي أسلافك الذين لم يخونوا أبدا العهد مع الله, لقد احترمت دائمًا هذه الأمانة المقدسة. هل يمكنك التضحية بماضيك, والبيع بالرخيص الكثير من المزايا أو السماح لحديثي النعمة ذوي المصالح فعل ذلك؟"...
"إنه لمن الغباء أن نعلن للعالم أجمع أننا نمثل كل الشعب الجزائري, وأن الشعب سيكون سعيدًا من أجل خدعة التجنس (بالجنسية الفرنسية) مضحيا بذلك جنسيته العربية البربرية, ومعتقداته, وماضيه, وكل ما يشكل شرفه. أيها الشعب, لقد قدمت لفرنسا دليلاً على إخلاصك, أنت تستحق الجزاء على ذلك, وستحصل عليه, ولكن ليس بسبب تجنيسك".
ما السبيل لمعالجة الثغرة في الفقه الإسلامي الجزائري؟ وضح الشيخ بن عليوة وبناءً على أساس عقائدي, أنه يجب إيجاد الوسيلة لإحياء الدين في الدين نفسه. يريد أن يعيد الإسلام إلى أصله الذي هو أصل كل حضارة غربية, والذي يتضمن كل الفلسفة الحديثة والأخلاق العالية والعدل والإحسان الاجتماعي. لا حاجة للمؤمن للانصياع لفلسفات الغرب, لقد وهب الإسلام ثروة لا تنضب, يبقى متعاليًا, أبديًا, صالحًا للغاية, ومن القرآن يأتي التجديد.
"إن أمة فرنسا لا تقل حاجة على غيرها إن لم نقل أن الحاجة بها أمس للاستطلاع على ما تتضمنه التعاليم الإسلامية, وذلك لأسباب أهمها كون نصف سكان مستعمراتها يدين بالإسلام خاضعا لتعاليمه. فكان عليها أن تضع فيه ثقتها بالقدر الذي تضعه في غيره من بقية أبنائها المخلصين, والضرورة تلزمها وإلا لعاش الجميع على غير اطمئنان لعدم تبادل الثقة بين المتعاشرين. وإن لم توجد ثقة في البعض من العنصر الفرنسي بمن شملتهم رعايتهم من المسلمين, فما هو السبب يا ترى؟ فإني ما أراه والله أعلم إلا عدم إطلاع هذا البعض عما تضمنته التعاليم الإسلامية أو كان يعتبر الإسلام كما يعتبره الجل من الغربيين من كونه عبارة عن مجتمع غوغاء, ديدنهم سفك الدماء".
"يجب على المسلمين الشعور بالأخوة الدينية فيما بينهم, ليكونوا أمة واحدة متحدة في الزمان وفي المكان. إن جلالة الملك (ابن سعود) نفسه الذي كانت الأمة الإسلامية تعلق عليه كبير أملها لم ينبس ولو ببنت شفة لتلك الدواهي كلها (لعدم تقديمه للمساعدة للطرابلسيين المضطهدين من قبل إيطاليا) وإذا فالأمة الإسلامية لم يبقى لها رجاء إلا في الله عزت آلاؤه"..
ونشر الشيخ بن عليوة خطبة شديدة اللهجة لإخوانه في الدين لدعوتهم إلى الاتحاد وحب بعضهم البعض (في حقيقة الأمر إن المقال المذكور كان تحت إمضاء محمد بن قدور المجاجي بعنوان لقوله تعالى: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) …
كان الشيخ بن عليوة, كما نلاحظ, أحد أبرز وأول العلماء السلفيين وقبل ما تم تسميته بالحركة الوهابية الجزائرية. لقد قام مسبقا بتعريف وتسطير مشروعه الإصلاحي, ولم ينفصل عن الجمعية الوهابية إلا في وقت لاحق, بعد اختلاف الرؤى التطبيقية مع بن باديس والطيب العقبي اللذان انتقداه على عناده وتعصبه وضعفه الجدلي (على حسبهم). كان يعتقد أنه من خلال ادعاءاتها السياسية فإنها تعرض قضية المسلمين في شمال إفريقيا للخطر. لذلك يمكن للمرء أن يتفاجأ في عمله برد فعل حيوي إلى حد ما.
بصفته شيخ من شيوخ الزوايا, عاد للدفاع عن الزوايا التي هاجمها من قبل بسبب البدع التظاهرية, كان شيخا من الدرجة العليا يحارب الشيوخ الجزائريين, كان تفكيره آنذاك يصب في أمل أن يتطور المغرب العربي في الاتجاه الصحيح, وليس تحت الزخم الذي يريده علماء مجموعة بن باديس, هؤلاء يشنون الحرب على شيوخ الزوايا دون أن يدركوا أن تدمير المعتقدات الشعبية يروج لدعاية المبشرين المسيحيين..
معركته ضد العلماء الجزائريين والذين يهاجمونه دون رحمة, حيث كانوا يلقبونه بشيخ الحلول أو الشيخ الدرني, فكانت هجماتهم تزداد مرارة يومًا بعد يوم. فتخلى عن المناصب المتقدمة التي شغلها في البداية, واتخذ الإسلام السني منهجا مدافعا عن المذهب المالكي المتجذر في الشعب الجزائري, فصار حينئذ أسلوبه الكتابي شديد اللهجة, قاسياً, طافحا بالتصويب نحو هؤلاء الشيوخ الإصلاحيون. من بين المسائل التي طرحها:
- هل الدين يحرم الإقراض بالربا وتعاطي الكحول؟ كان العلماء (الإصلاحيون) يتسامحون في تلك المسائل.
- هل الدين يحرم التجنس ولبس القبعات؟ كان العلماء (الإصلاحيون) يسمحون بذلك.
- هل الدين يشرع تلاوة القرآن في الجنازة؟ كان العلماء (الإصلاحيون) يعارضون ذلك ويحاربونها.
- هل يزكي الدين بتعظيم الأنبياء والأولياء واحترامهم؟ وهل يجيز بطلب شفاعتهم؟ كان العلماء (الإصلاحيون) يكفرون كل مؤمن يفعل ذلك ...
كان الشيخ بن عليوة يعتقد أن الإسلام لن يتجدد على يد هؤلاء الإصلاحيين حيث لم يعد يريد أن يرى فيهم أي شيء سوى أنهم أشخاص لهم طموح بدون أي روحانية حقيقية انتصر لهم الزمن. ومن جهة أخرى كان الشيخ بن عليوة يخاطب ضمير الناس الذين أحبهم بعمق والذين تمنى صحوتهم الدينية, ولكن كان المانع الآخر بينه وبين الجماهير هم أولئك شيوخ الزوايا التبركية الذين حاربهم مرارًا وتكرارًا. قدم لهم مشروع حملة إسلامية لإحياء النفوس المخفقة. ففي عدة مناسبات, نشر في جريدة البلاغ نداءه المدوي (اقرأ مقاله: إلى مشايخ التصوف وأرباب الزوايا).
لكن مبادرته لم يكتب لها النجاح. إذا تمكن للحظة من توحيد شيوخ الطرق الصوفية ضد الإصلاحيين, فإنه سرعان ما كان يشعر بالحسد من طرف نفس شيوخ الطرق الذين ينتابهم القلق بشأن التطور الكبير الذي تحرزه طريقته. في نداء أخير له بوتيرة رائعة, يشوبها في نفس الوقت الحنين إلى الماضي والافتخار به وخيبة أمل الحاضر (اقرأ المقال: إليكم يا مشايخ الزوايا).
بقيت عقيدة الشيخ بن عليوة, باستثناء بعض الشعائر, على المذهب الأشعري. لا أحد أفضل منه عرف كيف يوفق بين التوحيد الخالص لله في الإسلام وبين عقيدة الواحدية التي طالما انتقدت وما تزال. لماذا نغير العقائد؟ إنها ضرورية للإنسان, مبجلة تبجيلا عظيما منذ قرون, وعلى أية حال, فإنه يتم إحيائها وتجديدها باستمرار من خلال التفسير الباطني الغالي على الشيخ بن عليوة. وإلى جانب ذلك, ألا يشهد الإنسان تطور في ذاته؟ إنه يؤكد باستمرار أبدية الحق في تحوله نحو هاته العقائد.
علم عالم الغيب
في بعض مقابلاته الخاصة, علق الشيخ بن عليوة على القول التالي للحلاج: "هناك طائفتان, الأولى وهي الخاصة, أهل العناية الربانية, وحظهم في جنة الأنس, والثانية وهي العامة, الذين توقفوا عند ظاهر النص, وحظهم فقط في جنة الحس". فقال الشيخ: "إن الأولى قد فنت في تجلي نور الحق, بسعادة لا توصف بالرجوع أخيرًا إلى الجوهر بالمعنى المطلق".
كان يعتقد كباقي الأشعرية عدم الخلود في النار لمن ارتكب الكبائر من المسلمين. كما وافق الغزالي في قوله: "الاستقامة على الصراط في الدنيا صعب كالمرور على صراط جهنم, وكل واحد منهما أحدَّ من السيف وأدقَّ من الشعر, فَمَنِ اسْتَقَامَ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ خَفَّ عَلَى صِرَاطِ الْآخِرَةِ وَنَجَا وَمَنْ عَدَلَ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ فِي الدُّنْيَا وَأَثْقَلَ ظَهْرَهُ بِالْأَوْزَارِ وَعَصَى تَعَثَّرَ فِي أَوَّلِ قَدَمٍ مِنَ الصراط وتردى".
واجبات المؤمن الأساسية
من البديهي أن للإسلام خمسة أركان كما يذكرنا بها الشيخ بن عليوة في مقالاته, ولكن نرى أنه مثل كثير من شيوخ السنة لا يذكر الجهاد الذي يعد واجبا جماعيا على أن يكون فرديا. لقد ميز الإسلام بدقة منذ بدايته بين أشكال الجهاد المختلفة. قال النبي "صلى الله عليه وسلم" في مساء أحد الغزوات: "قدِمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر, قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد لهواه". إن أسمى معنى لهذا الحديث هو الجهاد ضد أهوائنا, ضد ميولنا إلى الكفر والشرك. جعل الشيخ عبده هذا التمييز مألوفًا حيث خصص في كتابه "رسالة التوحيد" والذي يجمع بين الاجتهاد والتقليد, فصلاً كاملاً لإثبات أن الإسلام انتشر بشكل أساسي بالوسائل السلمية. كان الشيخ بن عليوة يشاركه في هذا الرأي, إلى جانب ذلك, كان ينبذ العنف, كان لا يؤمن بفكرة المؤامرة الأوروبية التي تهدد الإسلام, بل كان يقول: "لا شيء يهدد الإسلام أكثر من بعض المسلمين".
الشهادة
أفتى الشيخ بن عليوة وخلافا لرأي كل الفقهاء التقليديين "أن الشهادة في غياب معرفة اللغة العربية, يمكن أَنْ تُلَقَّنَ بِلُغَةٍ أخرى, لأن الهدف مِنْ ذلكْ هو الاعتراف بوحدانيةِ الله وبرسالة سيدنا مُحَمَّدْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمْ".
أقَرَّ لنا الشيخُ بن عليوة, أنه لا يرى أيَّ مَانِع مِنْ ترجُمَةِ مَعَانِي القرآنِ إلى الفرنسيةِ أو إلى الأمازيغية... يا لها من جرأة... من المعلوم أن نظام قراءة القرآن له ضوابطُه العلمية, لكنْ لانْتِشَارِ كِتَابِ الله على نطاقٍ أوسع, يمكن تجاوز الكلمةِ لبقاء المعنى, وحُجَّتُهُ في ذلك... "أن كلَّ إنسانٍ, موهوبِ العقلْ, من حقِّهِ الاتصالْ المباشرْ مع كِتَابِ الله, ولا يَجِبُ حَجْبُهُ عَنْهْ, لِجَهْلِهِ اللُّغَةَ العربية". ونتذكر الجدل الذي وقع في جامعة الأزهرِ الشَريِفِ سَنَةَ 1931, الموافق لـِ 1349 من الهجرة, حول ترجمةِ القرآنِ الكريم إلى اللغةِ التركية, حيث كُوِّنَتْ لجنةً فرعيةً خاصةً من العلماء فقطْ لحَلِّ هذه المشكلةِ الشائكة, وبعد مناقشاتٍ طويلة, خَرَجَتِ اللجنةَ بقرارٍ أنَّ ترجمةَ مَعَاني القرآنْ جائزةً على شَرْطِ أَلَّا تأخذَ هذه الترجمةْ عنواناً لها "بالقرآنِ", وإنَّ استنساخَ كلماتِ المُصْحَفِ كلمةً, كلمةْ, غيرُ جائز.
الصلاة
هنا قام الشيخ بن عليوة ببعض الاستثناءات في المذهب المالكي بالجزائر.
كتب الشيخ بن عليوة ما يلي: "إن الصلاة في اللغة تعني الدُّعاء, يوجهه الإنسان إلى الله, ولكن يجب أن يكون نابعا من القلب. حذر الشيخ بن عليوة العديد من المسلمين الجزائريين من الصلاة الشكلية التي حلت محل الصلاة العفوية بالمناجاة. واعتبر, كما هو الحال مع الحلاج, أن شعائر العبادة ليست بالضرورة أساس الدين بل هي وسائل وأدوات سخرها الله لنا لإدراك الحقائق. قال: " الدين مجرد دليل أو مرشد". الصلاة ليست تقليد حركات بدون تفكير, عليك أن تفكر وتشعر بحضور الله. العنصر الأساسي هو الحضور اليقظ للقلب. ثم ختم الشيخ كلامه بهذه الحكمة: "صلاة من غير ركوع خير من ركوع بدون حضور للقلب".
انتقد رجال الدين الجزائريين الشيخ بن عليوة لمساسه للشكليات (في الصلاة) , فقالوا مثلا:
أ): "إنه لا يتحدث عن وَضْعِ السُّترةِ في الصَّلاةِ...", ومن المعلوم أنه مِن السُّنَّة أن يَضَع المصلي سُترةً أمامَهُ حتى لا يَمُرَّ أمامَهُ أحدٌ, لِمَا روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إِلَى سُتْرَةٍ, وَلْيَدْنُ مِنْهَا". لم يذكر الشيخ بن عليوة ذلك في أي من كتاباته, رغم أنه كان راضيا عنها شخصيا.
ب) "إنه لا يحرص على أداء الصلوات الخمس المفروضة في أوقاتها (الضرورية)". كان يصرح بصحة صلاة الظهر حتى دخول صلاة العصر. من ناحية أخرى, كتب قائلا: "مهما كان الوقت الذي اختاره المكلف لتأدية صلاته, فإنه يعتبر أنه قد أدى صلاته في وقتها" لأنه تم تحديد بدقة أوقات الصلاة.
وهناك الكثير من الأمور فيما يخص الصلاة والتي تدخل في الفقهيات الاجتهادية. ولكيلا تتزامن صلاة المسلمين مع الظواهر الفلكية للشمس, ولكيلا تكون العبادة موجهة لها, فإن المؤمنين مأمورين بعدم بدء صلاة الصبح والمغرب إلا في وقت قليل قبل شروق الشمس وبعد غروبها. نفس الشيء بالنسبة للظهر وبعد العصر. مما لا شك فيه, أن هناك تأخيرًا معينًا في الصلاة, لكن المتشددون يلومون الشيخ بن عليوة لكونه خرج عن المألوف في هذا الصدد, وبالتالي رخص بأداء الصلوات في أي وقت من أوقاتها المحددة, ويكفي للدلالة على ذلك ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صليتم الفجر فإنه وقت إلى أن يطلع قرن الشمس الأول, ثم إذا صليتم الظهر فإنه وقت إلى أن يحضر العصر, فإذا صليتم العصر فإنه وقت إلى أن تصفر الشمس, فإذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق, فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل".
ج) نفى الشيخ بن عليوة مرارًا وتكرارًا تلك الدعاية والتي تقول إن تلامذته يتجهون أثناء الصلاة نحو مستغانم وليس نحو القبلة أي مكة كما هو معلوم. لقد أصر هو نفسه, في كتابه المرشد (باللغة الفرنسية) , على واجب استقبال القبلة اتجاه الحرم المكي. ومع ذلك, فقد ثبت أن العديد من مريديه, ولا سيما التابعين لزاويا (برج بوعريريج) , يتجهون للصلاة نحو مستغانم (كانت هذه دعاية من أحد أعداء الشيخ بن عليوة سنة 1921). والحسن بن عبد العزيز كتب قائلاً: أصبحت مستغانم قبلة للحجاج (أي قبلة معنوية وليست قبلة للصلاة).
د) مسألة وضع اليد على اليد في الصلاة (القبض): كان على الشيخ بن عليوة أن يدافع عن نفسه لإضفاء شرعية القبض والتي أمر بها أتباعه بالالتزام بها وقد وضح موقفه في كتابه "نور الأثمد في سنة وضع اليد على اليد في الصلاة" وقد اعتمد في جوابه على ما صحّ نقله عن الصحابة والتابعين وفيما ثبت نقله عن الإمام مالك وعن رواية ابن القاسم القائلة بسدل اليدين في الصلاة. وقد بين الشيخ بن عليوة أن القبض هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم والتي كان عليها الصحابة والتابعون والتزم بها إمام دار الهجرة وأصحابه المدنيون بل وكثير من المصريين وأئمة المالكية في الغرب الإسلامي بخلاف من ذهب مذهب ابن القاسم في روايته السدل ولم يكن لهم في ذلك أثر صحيح أو سقيم, وقد بين فيها سنية القبض وتحقيق قول أئمة المالكية في أفضلية القبض أو سنيته.
الزكاة والصوم والحج
أما بالنسبة للباقي فلم يكن له رأي مخالف للجمهور. ولكنه كان يؤكد أن المؤمن الحقيقي يجب عليه ألا يغفل عن حقيقة هذه الفرائض التي تنطوي فيها معاني وأسرار.
فالصوم في شرع القوم مثلا هو الإمساك عن كل ما سوى الله تعالى, وهو الغياب عن الحس والاجتماع بحضرة الأنس.
والحجّ في اللغة هو القصد مطلقا, وعند القوم هو القصد إلى مقام لا يمكن المزيد عليه, وإشارة إلى استمرار القصد في طلب الله تعالى, بشعائره المخصصة التي لها معاني رمزية. قال الشيخ بن عليوة: "إن السفر إلى مكة محمود ولكن يجب قبل كل شيء أن يتحقق سفر الروح نحو بيت الله. والإحرام إشارة إلى لباس التقوى, والهروب من الخطايا, كما يعود المرء على عجل من عرفات. وزمزم هو فقط بئر الحقيقة المطلقة حيث تأتي إليه الروح دائمًا للاغتراف منه.
المسيحية والشيخ بن عليوة
يبقى سؤال مهم بحاجة إلى إجابة مقنعة, وهو تمسك بن عليوة بالسر المسيحي للثالوث. فحسب برنامج منسوب إليه من قبل بعض الكاثوليك وأعدائه من أبناء وطنه, فكر الشيخ بن عليوة في اتّحادٍ تَوْفِيقِيٍ بين المسيحية والإسلام, حيث طلب من النصارى التَخَّلِّي عن التثليث أو على الأقل تفسير عقيدة الثالوث. تمت مناقشة هذا البرنامج بشكل ساخن في مؤتمر, حيث جاء في "Semaine Religieuse d'Oran" ما يلي: "هذا المؤتمر له إشارة خاصة لأسلوب تفكير جديد, حيث يمكن له أن يقرب المسيحية بالإسلام, أو على العكس زيادة التباعد بينهما, وذلك حسب التوجهات التي ستنتج من هذه الاجتماعات".
ومن جهة أخرى, نعلم أن أثناء زيارة الشيخ بن عليوة لتابعيه في دائرة قسنطينة (برج بوعريريج) أظهر إعجابه بالإنجيل, وأبدى نيته في ترجمته إلى اللغة العربية الدارجة لنشره في الدواوير أو القرى (حسب تقرير موجه لوالي قسنطينة سنة 1921) كما تم ذكر علاقاته الودية مع بعض رجال الكنائس.
ألقى أحد أشد منتقديه (عثمان بن المكي التونسي) باللوم عليه لاستخدامه البخور في الاحتفالات العلاوية, وكذا المسبحة التي يمسك بها أتباعه في يدهم ظاهريًا بدلاً من تعليقها حول الرقبة وهو ذات الاتهام في نفس الوقت من طرف الوهابيين الجزائريين, ولكن هذه المرة بنشر بدعة المسبحة التي لم يستعملها النبي صلى الله عليه وسلم.
يجب أن نذكر بالاستنكار الشديد للثالوث الذي جاء في القرآن, الثالوث هو شكل من أشكال الشرك بالله. إنها ليست عقيدة توحيدية (كما يعتقد) , إنما عقيدة ثالوثية. التوحيد الخالص هو الحجر الأساس في الإسلام. الشهادة, هي تأكيد التوحيد, ليس لها معنى آخر غير النفي الصريح للثالوث.
ومع ذلك أُتُهِّمَ الشيخ بن عليوة بأخطر بدعة في الإسلام, على الرغم من أنه نفى ذلك بشدة ودافع دائمًا عن التوحيد. بهذا الصدد استشرنا أحد أولئك الذين عرفوه جيدًا والذين كان لديه معهم خلافات ودية وطويلة. نعطي مقتطفًا من الرسالة التي أرسلها إلينا الأب جياكوبيتي, من الآباء البيض:
"سان سيبريان (الجزائر), مارس 1936.
..... سأخبرك بما كان عليّ أن أناقشه مع الشيخ بن عليوة الذي تربطني به علاقات ممتازة, كما هو الحال مع جميع شيوخ الزوايا الذين التقيت بهم.
كان ذلك في يوليو 1926, عندما دعيت إلى "لوفان" ببلجيكا لعقد مؤتمر حول الطرق الصوفية الإسلامية, التقيت بالشيخ بن عليوة الذي كان في طريقه مع العديد من الفقراء من طريقته إلى افتتاح مسجد باريس.
كان جالسًا على جلد غنم, كان يستريح على ظهر الباخرة التي كان تنقلنا إلى مرسيليا. أجرينا محادثات طويلة وودية. أطلعني الشيخ على كتاب كان يعده حول التفاهم بين الفرنسيين الكاثوليك والمسلمين. لهذا الغرض, قام بعمل مجموعتين من النصوص.
الأولى احتوت على نصوص قرآنية تتحدث عن التسامح والرفق تجاه خصوم (النبي) محمد (صلى الله عليه وسلم) في بداية رسالته, عندما حاول جذب اليهود والنصارى إليه. سألته كيف يفسر آية السيف التي تبطل كل هذه الآيات. لم يكن يدري كيف يجيب علي.
في الثانية, كان قد جمع جميع شهادات المؤلفين المثقفين والفلاسفة الأوروبيين الذين قدموا للإسلام تقديرًا للإعجاب. نحن نعلم كم هي نفيسة في نظر المسلمين, والذين يفتقرون حتى إلى براهين للدفاع عن دينهم, هذه الإثناءات التي يحملها الأجانب لصالح الإسلام.
سألني إذا كان بإمكاني التعاون معه لترجمة هذه النصوص المختلفة إلى الفرنسية من أجله. قبلت من حيث المبدأ. لإنهاء حديثنا الودي, سألني الشيخ عما إذا كان باستطاعة المسيحيين الاتفاق مع المسلمين على تشكيل دين واحد (في العقيدة). قال لي: تخلوا عن سر الثالوث والتجسيد, فلا شيء سيفصلنا. وبالفعل (يتكلم الأب جياكوبيتي), فإن المسلمين في صيغتهم ينكرون صراحة الثالوث: لا إله إلا الله, يعني صراحة حسب جميع علماء الإسلام: لا يوجد في الذات الإلاهية ثلاثة أشخاص. يتظاهر (شيوخ) الإسلام بأن دينهم يقبل بديننا كدين توحيد, رغم أن إيماننا بثلاثة آلهة وأننا مشركون, وهذا الموقف غير سليم, لإن الإله الواحد في الإسلام هو النفي الصريح للثالوث. وبالتالي, فإنهم ينكرون ألوهية يسوع المسيح, الذي نعتقد أنه ابن الله المتجسد, أما بالنسبة للإسلام, فهو مجرد عبد لله. إن معجزاته الرائعة لا تحتسب عندهم لإثبات ألوهيته, بينما يسوع فعلها فقط لهذا الغرض المحدد. أجبت الشيخ بن عليوة أنه إذا كان يريد هذا السلام مع المسيحيين, فلا داعي لأن يطلب منهم الانتحار. لأنه لن يعد المسيحي مسيحيا إذا تخلى عن هاذين السرين الرئيسيين لدينه. أجابني بهذا التفسير العبقري: لكن يهود العهد القديم لم يؤمنوا صراحة بالثالوث ومع ذلك كانوا في الدين الحقيقي. أجبته بنعم, لم يكن لديهم فكرة صريحة عن الثالوث, لكن هذا اللغز له العديد من نقاط الدعم في الكتاب المقدس, ولم ينكره يهود العهد القديم كما يفعل المسلمون. تشهد حقائق وأدلة الإنجيل مع الدليل الأخير على أن يسوع قدّم نفسه كابن لله وأن الروح القدس قد تجلى بطريقة ملفتة للنظر. ثم تفارقنا على حسن الوداد. حافظ الشيخ بموضوع محادثتنا وذكرها في كتاباته. لم ينس إذا المسافر الذي قابله على ظهر الباخرة ...... (انتهى)...".
هذه الشهادة لا تقبل الجدل. كان الشيخ بن عليوة بعيدًا كل البعد عن التمسك بالثالوث, بل بالعكس طلب بذل ذلك التخلي عن المسيحية. والحقيقة أن للشيخ بن عليوة فضول معرفة جميع الأديان وكان فضوله شغوفاً للغاية. يبدو أن معرفته بالبيانات الكتابية القديمة, وحتى أيضا التراث الكهنوتي, أورثه مفاهيم واسعة إلى حد ما. لقد استمتع بشكل خاص بإنجيل يوحنا ورسائل بولس. إن مفهومه الدقيق للغاية للعلوم الروحية, سمح له بالتوفيق بين مفهوم التعددية ومفهوم وحدة الأشخاص الثلاثة في ذات واحدة جوهرية, حيث أقر بالاحتمال المستوعب للإله, ومع ذلك رفضه في نفس الوقت, وفهمه هذا جعل البعض يظن أنه أن يؤمن بالثالوث.
تبقى الحقيقة أنه كان طوال حياته, مثل العديد من شيوخ التصوف, منجذبا بشدة إلى عيسى (عليه السلام). كانت الأناجيل مألوفة له, كان في سياق التأمل المستديم, يغذي نفسه بتعاليمهم. في أحد الأيام كنا نقوم أمامه بتحليل تأويلات التفسير الحديث (للأناجيل), من "شتراوس" إلى "شارل جينيبير", فكشف لنا الشيخ عن ازدرائه للنقد الديني. قال لنا: "لا يهمنا ما إذا كان إنجيل يوحنا ملفقًا أم لا, ولكن ما يهمنا هو أننا لا نتفق على التوحيد! إن الله غني عن لباقتنا اللغوية". واعترف الشيخ بن عليوة بأنه تأثر بشدة بقضية "أرنست بسيخاري", حفيد "رينان", الذي بدأ من الإلحاد لينتهي به المطاف إلى الإيمان.
الطريقة العلاوية
بادئ ذي بدء, يجب توضيح الأمر الآتي, الطرق الصوفية المشهورة بالمشرق تختلف عن تلك الموجودة في الجزائر. تظهر بعض الدراسات الأولى حول الزوايا, والتي استوعبها بعض المؤلفين في المؤسسات بباريس, تظهر تحاليل حول واقع الممارسات في الزوايا المختلفة, فبات مفهوم الطريقة الصوفية أكثر تعقيدًا. والحقيقة لم يكن هناك أبدًا في هذا البلد أي شيء سوى الزوايا الشعبوية, والتي تم تنظيمها أحيانًا في شكل جمعيات, وليس لها إلا انعكاسات طفيفة عن التصوف المشرقي. إن تلك الزوايا, مشهورة جدا بأوليائها الصالحين, ولكن (ظاهريا) بدون جداول تعليمية روحية منتظمة, فهي متجذرة في غالبية المغرب الكبير, وكيفما كان, فإن ميزتها الأساسية بث تعاليم حية عن مفهوم الإله (الحق), وتوجيه الفكرة وجعلها حساسة للقلب, الفكرة ربما تكون مألوفة ولكن في نفس الوقت تستجدي منفعة جديدة!
إن مثل هذا المؤسس لطريقة جديدة, حتى لو كان أشعريا وعارفا (بالله) بمنزلة الغزالي, سيكون أقل توقيرا كشيخ مجدد من ذلك الشيخ المبتدع في الدين. لتحقيق النجاح, فكما يقال (عند المسيحيين): "من الأفضل تلوين حبة المسبحة بدلاً من بث دعوة ما". كان الغزالي بكلامه الذي يحمل معاني رقيقة يفتن الحشود أقل من شيخ جاهل يترأس زاوية ما. وإذا كان الشيخ بن عليوة قد أثار بين أتباعه حماسا مفرطا, فيظهرُ لي أنَّهُ ليس ذلك كُلُّهُ مُنْبَعِثٌ مِنْ عِلْمِ الباطنِ أكثرَ مِنْ إشعاعه الشخصي.
إن الزوايا (بالجزائر) تمتص الطريقة وتطهرها من خميرتها الشرقية, تبربرها, تصفيها, تعتدلها, تحتجزها. لا شيء من هذا التأمل المثالي والفكري يشبه ذلك الذي ينهل في الشام من فكر عبد القادر الجيلاني. باختصار, الدين المنتشر في المناطق الريفية, من الواضح أنه سهل التصرف فيه عند الشيوخ, لأنهم ينتقلون إلى إيمان الواقعية الريفية. "الله" في المناطق الريفية له الأسبقية على كل شيء.
هذا هو المعنى الذي نعطيه للطرقية الجزائرية والتي باتت كل زاوية, ابتداءً من خليفتها الثاني, سوى جمعية بسيطة, وفقراء يجتمعون حول أحفاد المؤسس الأول.
اختيار الشيخ
لا بد للمريد المبتدئ من اختيار شيخ له إذن إلهي.
في الواقع, للوصول إلى شهود الذات, وتجنب فخاخ الشيطان وفتنه, يحتاج المبتدئ إلى مرشد روحي يوجهه لتنوير قلبه. ويمكن للمريد إذا لم يقتنع بشيخه الحالي أن يبحث عن شيخ أكثر قدرة كما هو متوارث عن الشيخ الشاذلي الذي أذِن لمريديه (المشككين) على اتباع شيخ آخر. لكن لا يمكن أبدا أن تكون هناك فردية في معرفة الله (من دون شيخ). هناك, في الواقع, أصول تتطلب الصبر المستديم في السلوك لتحقيق الشهود, والتي يجب على المريد أن يخضع لها بأمر من شيخ عارف المسالك, بإشاراته التذكيرية والمعنوية لتوجيه كل مريد على حسب استعداده, من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام, يقوم المريد من خلال الطريقة بتطبيق الشريعة على نفسه ليتمكن من الوصول إلى الحقيقة.
كان يمكن (في نظري), للشيخ بن عليوة الاستغناء عن الشيخ المربي في السلوك (إلى الله), وبما أنه كان له مرشد روحي, وهو سيدي محمد بن الحبيب البوزيدي المستغانمي, فذلك لتطبيق القاعدة في الطريق وهي أنه لا بد من مرشد روحي وشيخ مربي, فكما أوضحنا, إن اتخاذ مرشد ضروري وواجب حتى لأولئك المريدين الذين شهدوا في بدايتهم ما يمكن لهم أن يصلوا إلى أعلى قمم المعرفة الدينية ولاحت عليهم الأنوار الإلهية.
إذا, أين يمكن للمبتدئ البحث عن هذا المرشد الروحي؟ هل هو بين شيوخ الزوايا المعاصرين؟ كلا. كان الشيخ بن عليوة من الأوائل, وقبل العلماء الوهابيين, الذين وجهوا انتقادات قاسية لأساليب (بعض) الشيوخ الصوفية الجزائريين. لقد أعطوا صورة واضحة لبعض المشايخ الذين يسترزقون من الناس معتمدين على النسب الشريف لأسلافهم (الأولياء الصالحين), مهملين علوم الشريعة والحقيقة, غافلين عن واجبات الإسلام النبيلة, لا يلتفتون إلا لمصالحهم الشخصية. ولذا فإن ظهور الشيخ المربي والمجدد الذي يتواصل بسلسلة الأقطاب, هو حدث عظيم يمكن للمرء أن يعيشه. ولكن للأسف, بدلاً من التماس صحبته, انحرف شيوخ الزوايا عن هذا الالتزام وضلوا في طرق أخرى, لقد استسلموا لأهوائهم دون الرغبة في فهم تعاليم أسلافهم العارفين بالله والذين ينتسبون إليهم, ومما يؤلم أكثر أنهم شوهوهم, وبإرادة استبدادية غيروا مبادئ طريقتهم المغطاة في الوقت الحاضر بفسادهم.
اكتشف الشيخ بن عليوة سريعا التطور السلبي للتصوف في الجزائر التي أدخل على الإسلام شعائر غريبة عنه من التقديس (المفرط) للبشر إلى عقائد تتمحور حول الزراعة والطبيعة, وطقوس سحرية, شعائر محلية مشوبة بشدة بالجاهلية. في الواقع, كان وما زال الشيوخ, الأولياء الصالحين, هنا وهناك, نموذجا حيا ونشطا في التذكير والدعوة الإسلامية, ولكن أحفادهم, المتجذرين بشكل أعمق في الأراضي الريفية المبربرة, استمدوا هناك نفوذهم الفردي باستقلاليتهم الدينية والذوق الراسخ للانقسام الذي يميز المغرب العربي. فبتمسكهم بمعقلهم الروحي, اتخذ الشيوخ مواقف معادية لعالمية الدين الإسلامي والذي من شأنه أن يخمد اعتبارهم, إنهم يحاربون مساعي التجديد والتطهير التي من شأنها أن تدحر أحقيتهم. وربما لا يوجد للإسلام أعداء أشد مكرا من أولئك الشيوخ المحليين الذين تكلموا باسمه أول مرة, واستقروا هناك, وقاموا شيئا فشيئا بفصله عن التصوف المشرقي ليتم ريفيته أو تغطيته بالغطاء المبربر. انحرف الشيوخ ونزعوا ثوب الإسلام الحقيقي عن الإسلام ذاته.
بكل سفاهة, ينسبون هؤلاء ممارساتهم المخزية إلى أسلافهم الأتقياء, الأبرياء الذين لم يتوقفوا طوال وجودهم عن تعاليم البر والتقوى. قال الإمام سيدي أحمد التجاني مخاطبًا أجيال مريديه: اعلموا أن الله بعلمه الأبدي وبمشيئته أراد أن يكون أولى فضل نعمه إلى أولياءه الأحياء في كل زمان, أهل الديوان, فمن يبحث عن صحبتهم ويلجأ إليهم, ينال من خلال وساطتهم جزءًا من هذه النعم, وإذا اختلف عن الشيوخ الأولياء الأحياء, واكتفى بأوراد الأولياء المتوفين, فإنه يضع نفسه في حالة العنيد الذي يبتعد عن نبي معاصر, بحجة أنه يطيع أحكام الأنبياء السابقين, إنه بهذا التصرف يعرض نفسه إلى البدع (هكذا في الأصل).
لا يمكن أن يكون هناك إلا مرشد واحد في زمانا, الأمين الوحيد لمعرفة الله والدلالة عليه في القرن العشرين. هو المستنير بالله, مصدر المعرفة والعلوم الصوفية, عمود الحكمة, صاحب المعجزات المشهودة, صاحب الاسم الأعظم والوحيد القادر على تلقينه (للمريد), أبو العباس سيدي أحمد بن مصطفى بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحاج علي, الذي كان يُعرف في عصره باسم الشيخ بن عليوة.
لسنا من نفتخر بخدمة ولي الله لأنه بلغ الكمال أو صنع المعجزات أو لديه قوى خارقة للطبيعة. نحن نقول فقط إنه الوحيد في زمانه, المرشد الروحي الحي الوحيد, المنفرد والمؤهل لتربية مريدي عصره.
إن التاريخ الديني للمغرب العربي مليء بهذه الدعوات التي تنشأ بشكل دوري بنظام مذهل ومتوازن, في الزمان والمكان, كما لو أن الواقعية الضيقة للعرق قد تحررت من الأرض لتحلق في السماء. فلما منطقة القبائل تميل إلى الوثنية, وأهالي وادي سيبوس ينسون الله, وأهالي الشلف الأدنى يفقدون إيمانهم, وأهالي جبال البخاري ومنطقة مستغانم يبتعدون عن الإسلام, نرى (فجأة) ظهور سيدي عبد الرحمن, وعمار بوسنة, وبن تكوك, والشيخ الميسوم, والشيخ بن عليوة, يظهرون بشكل مرتب من خلال نوع من ظاهرة دورية التي لا تترك لنا مجال من غير أن نتفاجأ.
ولكن كان من الضروري أن يفرض المرء نفسه على الأهالي البربر, سواء كانوا ساخرين أو سذج. المهمة وكلت لأنصار وأتباع الشيخ بن عليوة لذلك. كشف لنا التاريخ تفاصيل عن مؤسسي الطرق الصوفية الذين يدعون إلى الله بالشريعة وإلى معرفة الله بالطريقة. لشيخنا بن عليوة أكبر نصيب في هذا المجال. في الواقع, بفضل علمه الزاخر وفضائله العظيمة, حصَّل في فترة زمنية قصيرة جدًا على نتائج حيث أن العديد من مريديه تحققوا بالحقيقة ووصلوا إلى حالة النعيم هذه التي تسمى "الوصول". وتنتشر طريقته في الوقت الحاضر, بفضل شأنها, في جميع البلدان. مؤلفاته ترشد وتضيئ قلوب العباد من كل المقاطعات وخاصة الجزائر والدول المجاورة.
من جميع الأصقاع, يتدفق المريدون بأعداد كبيرة لتلقي التلقين في الخلوة والعوم في بحر الحقائق الروحية. أصبحت مستغانم القبلة (المعنوية) لهؤلاء الحجاج (الزوار). بفضل هذه الكشوفات, اعتنق الكفار, (النصارى خاصة), الإسلام بأعداد كبيرة. في بداية دعوته, ألم يصرح سيدنا الشيخ (بن عليوة): قال لي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بلغة واضحة: "أنا الذي أنصرك, وأنا الذي أتبعك". وطلب منه خصومه في ذلك الوقت دليلاً على تلك الرؤيا, وهذا الدليل هو نشأة طريقته وتطورها السريع وامتدادها التلقائي.
لكن هذه النشوة بالدفاع عن دعوته لا تكفي, حيث لا يزال من الضروري للشيخ أن يحصل على اعتراف (خصومه) لولايته ومشيخته, كان عليه أن يثبت أصل نسبته الروحية, وهنا تتجلى الإمدادات لشيوخ السلسلة الروحية, والتي تشبه بحق بالسلسلة الذهبية الأفلاطونية الحديثة. السلسلة مزدوجة (سلسلة وشجرة), وهي تربط سلسلة السادة الصوفية بالتداول, كما هو الحال في الأحاديث, بالتلقين المباشر حتى تصل بالعد التنازلي إلى النبي (صلى الله عليه وسلم). كل شيوخ التصوف في الجزائر اعتنوا بسلسلتهم, حيث كل شيخ يمثل حلقة تلو الحلقة.
إذا صدقنا قول أنصاره, كان بإمكان الشيخ بن عليوة الاستغناء عنها (أي السلسلة), ألم ينل الخلافة المحمدية مباشرة؟ كان النبي (صلى الله عليه وسلم) نفسه الذي أوكل إليه مهمته شفهياً. لا يهم! الحسن بن عبد العزيز نشر (في كتابه إرشاد الراغبين إلى ما احتوت عليه الطريقة العلوية من الفتح المبين) السلسلة المزدوجة للطريقة "العليوية".
السلسلة الذهبية (الأوراد)
الشيخ سيدي أحمد بن الحاج مصطفى بن عليوة, مؤسس الطريقة, عن الشيخ سيدي محمد بن الحبيب البوزيدي, عن محمد بن قدور الوكيلي, عن سيدي محمد بن عبد القادر الباشا, عن أبي يعزى المهاجي, عن الشيخ الأكبر العربي بن أحمد الدرقاوي مؤسس الطريقة الدرقاوية عن سيدي علي الجمال عن سيدي العربي بن عبد الله عن سيدي قاسم الخصاصي عن سيدي محمد بن عبد الله عن سيدي عبد الرحمن الفاسي عن سيدي يوسف الفاسي, عن سيدي عبد الرحمن المجدوب, عن سيدي علي الصنهاجي, عن سيدي إبراهيم الفحام, عن سيدي أحمد الزروق, عن سيدي أحمد الحضرمي, عن سيدي يحيى القادري, عن سيدي علي بن وفا, عن والده سيدي محمد وفا, عن سيدي داود الباخلي, عن سيدي أحمد بن عطا الله, عن سيدي أبي العباس المرسي, عن سيدي أبو الحسن الشاذلي, مؤسس الطريقة الشاذلية, عن سيدي عبد السلام بن مشيش, عن سيدي عبد الرحمن العطار الزيات, عن سيدي تقي الدين الفقير, عن سيدي فخر الدين, عن سيدي نور الدين أبو الحسن علي, عن سيدي تاج الدين محمد, عن سيدي محمد شمس الدين, عن سيدي زين الدين القزويني, عن سيدي إبراهيم البصري, عن سيدي أحمد المرواني, عن سيدي سعيد, عن سيدي سعد, عن سيدي فتح السعود, عن سيدي سعيد الغزواني, عن سيدي أبو محمد جابر, عن سيدي الحسن بن علي بن أبي طالب, عن علي بن أبي طالب, عن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).
سلسلة التبرك (الشجرة القادرية الشاذلية)
سيدي الشاذلي, عن سيدي محمد بن حرازم (حرزهم), عن سيدي محمد صالح بن نيصار, عن سيدي شعيب أبو مدين, عن سيدي أبي يعزى ميمون الغربي, عن سيدي أيوب بن سعيد, عن سيدي محمد دينور (بنور), عن سيدي عبد الجليل, عن سيدي عبد الله بن أبي بشر, عن والده سيدي أبي بشر الجوهري, عن سيدي أبو الحسن النوري, عن سيدي السري السقطي, عن سيدي معروف الكرخي, عن سيدي داود الطائي, عن سيدي حبيب العجمي, عن سيدي محمد بن سيرين, عن سيدنا أنس بن مالك, عن سيدنا النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).
الشعائر الدينية في الطريقة العلاوية
كان الشيخ بن عليوة, مثل معظم شيوخ السلسلة الشاذلية, طبيب نفساني ماهر. اهتمامه الدقيق والمتواصل يشهد له على امتلاكه إحساس عميق بردود الفعل للعقل البشري. إنه يعلم أن لا أحد يدرك علم الغيب, وأن هناك تربية روحانية لتحقيق حال الوجد, وهي طريقة تجريبية لأخذ بيد السالك المبتدئ إلى الله.
ويصيب المرء بالدهشة من الروابط الوثيقة التي تربط شعائر الطرق الصوفية بالتمارين الروحية لـ "اللويولا" (وهي كلية اللاهوت والفلسفة عند النصارى). كانت المقارنات من هذا القبيل بحيث وجد "مولر" أصول "ميكانيكا إغناطيوس" في الطرق الصوفية بالمغرب العربي. في الواقع, في حالة كما في الأخرى, هي قبل كل شيء شعائر تكرارية, مرتبة بشكل رائع لإعداد المريد السالك لمرحلة ما قبل الوجد.
كما تفَوَّقَ الشيخ بن عليوة أيضًا بمعرفته في ترويض النفس. إن هذا الأستاذ المُلهَم, الخبير في استخراج المعاني الروحانية السامية من النص, الشيخ في علم التصوف, المعزز بالعلوم الباطنية المصقولة, لن يتردد بالمقابل, في طقوس العمارة أو الحضرة, من تلبية دعوة الصرخات والرقصات والحركات شديدة الاهتياج لمريديه لفتح بصيرتهم ليتمكنوا من شهود الأنوار الإلهية. لم يمارس أحد أكثر منه فن التذكير بتوصيته الدائمة بذكر الله.
لكن هنا على وجه التحديد, واجه الانتقاد, سواء من علماء الظاهر ومنهم الوهابية, أو من (حاسديه) شيوخ الزوايا. الشيخ بن عليوة تعرض للتنكير من علماء الظاهر والتكفير من علماء الوهابية (ونعته بشيخ الحلول), وللابتداع من (حاسديه) شيوخ الزوايا, فأصبح, حينا من الدهر, من الصعب عليه الاستمرار في مهمته, ولكن حافظ عليها فقط بحكم علمه بأحوال الضَّمائر وكذلك بفضل مكانته الخصوصية.
لطالما هاجم علماء الظاهر الممارسات الشعائرية للطرق الصوفية المتنوعة, وإفراطهم في التعبد بشتى الوسائل وتلقينهم (علم الباطن), وأزياءهم الخاصة من تسريحات الشعر المميزة ذات العصابات الملونة, واستخدامهم للمنشطات مثل القهوة والحشيش والأفيون, وشعوذتهم, ومعتقداتهم في الفاعلية الخارقة للتلقين, والبركة, وخضوعهم الأعمى للإشراق الفردي والفوضوي لشيخ غير مسؤول. ومع ذلك, فإن علماء الدين السنة لم يدينوا الصوفية قط بشكل قاطع, فتكفيريهم بشكل خاص كان موجها للمدرسة الأحادية لابن عربي, وبالمناسبة إن الشيخ بن عليوة كان مرتبطا بها, ومع ذلك لم يتم تكفيره.
الذكر
يجب على المبتدئ في بداية سيره أن يذكر الذكر العام والذي هو على النحو التالي:
مرة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
ثلاث مرات: بسم الله الرحمن الرحيم
مرة الآية: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم).
مائة مرة: أستغفر الله تعالى.
مائة مرة "الصلاة أمية": اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
يجب ترديد الذكر بصوت متناغم. لقد أولى الشيخ بن عليوة دائمًا أهمية كبيرة للوداعة الصوتية في الصلاة (أو في غيرها). كان دائما محاطا بفقراء يتمتعون بأصوات مميزة. وأوضح أن: "في سماع القصائد تفيض النفوس الميتة", وقال كذلك: "إن سماع القصائد هو الصوت الذي يعيد إلينا النفوس الميتة", ومع ذلك لم يكن أبدًا اللحن في القصائد المحرك الأساسي في ذهنه بل كان نداءه الباطني للموتى.
في بعض المناطق ينتهي الذكر العام بهذه الكلمات: والشيخ العلاوي غوث الله (على حسب تقرير من المعذر (عين القصر) المؤرخ بـ 31 ديسمبر 1921).
مثل العديد من الشيوخ, دعا الشيخ بن عليوة إلى كثرة الذكر بالاسم الأعظم مع المد والتعظيم حتى ينقطع النَفَسْ. يقول الشيخ بن عليوة: "هناك تواصل متكامل بين (ذكر) الاسم الأعظم والنور الأعظم لعالم الإطلاق, حتى يضمحل شعاع الذاكر في نور عالم الإطلاق ويندمج معه". لقد فهم السيد عبد الكريم جوصو ذلك جيداً: "شيخ العلاوية لا يعرض أي وسيط (بين المريد وربه), فمن خلال طريقته, كل شخص يمكن له العروج إلى أعلى المقامات, وهذه الطريقة هي ببساطة تكرار اسم الله, ثم هو ... هو ... هو ... (هوَّ), ومن الغريب أن نتذكر هنا إحدى تعاليم "بلوتينوس" للوصول إلى (معرفة) الله: "عندما تذكر اسمه, أو عندما تفكر فيه, اطرح كل شيء وراءك, تجاهل كل شيء, اترك المجال فقط لهذه الكلمة البسيطة: "هو", لا تبحث عن أي شيء تضيفه, لكن ابحث في نفسك إذا بقي شيء لم تطرحه بعد, لأنه لا يقبل الشريك في الفكر الذي لديك".
انتقد الشيخ عثمان بن المكي الأستاذ في جامعة الزيتونة بتونس بشدة هذه الطقوس, وقال إن حقيقة ذكر المقطع الأخير فقط من كلمة اللهُ, وترديد هو ... هو ... هو ... هو تأوه لا علاقة له بالدعاء الإلهي. وردَّ عليه الشيخ بن عليوة في كتابه "الله" أن ذكره مقتبس من القرآن.
السماع والاهتزاز
كما انتقد الشيخ عثمان بن مكي الشيخ بن عليوة لاستخدامه للسماع والاهتزاز في شعائره التعبدية. فكتب الشيخ بن عليوة ردا عليه: أنه رفع إلى الإمام أبي حنيفة سؤالا مما يفعله الصوفية في الحضرة وما يتظاهرون به, هل هم صادقون في ذلك أم كاذبون؟ فأجاب: إن لله رجالاً يدخلون الجنة بدفوفهم ومزاميرهم, ثم قال الناقل: كان في بلادنا طائفة يرقصون للذكر حتى يسقطوا على الأرض, ولم ينكر عليهم الإمام, ويزورونه ويكرمهم, ويسألونه ويجيبهم, ومن ذلك أنه قال مرة شيخهم للإمام: ما تقول يا سيدي ـ رضي الله عنكم ـ في مسالة هي أن أناساً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم دخلوا الكنيسة, واجتمعوا فيها حلقة, وتداولوا ذكر الشيطان بصوت عال من الصباح إلى المساء, افتنا فيهم أكفارٌ هم, أم لا؟؟ فأجاب رضي الله عنه: لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب وهذا ليس بذنب".
من أجل الرد على انتقادات الشيخ عثمان بن المكي, ذكر الشيخ بن عليوة عدة مراجع, لأنه إذا لم يكن عالما مما يشكله غالبًا فقهاء الإسلام, فبقدر ما كان يزدري من جدالات العلماء وتفاخرهم, فإنه كان يعرف كيف يتوغل في المناظرات العلمية إذا لزم الأمر.
لتبرير التواجد والرقص في الذكر, والإغماء المفاجئ لبعض المؤمنين, قال الشيخ بن عليوة: "من الضروري الرجوع إلى القرآن. قال الله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قلُوبُهُمْ" سورة الأنفال: الآية 2, لذلك لا يمكن أن يلام القارئ إذا تأوه, -ويضيف- أن الخليفة عمر مرَّ برجل يقرأ "إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ" سورة الطور: الآية 7, فصاح (عمر) صيحة سمعت من أقطار المدينة, ثم غُشي عليه, فحُمل إلى منزله, فمكث يومين لم يرجع كلاما". يستشهد الشيخ بن عليوة بحالة الشافعي مرة أخرى: "وسمع الشافعي رضي الله عنه قارئاً يقرأ "هَذَا يَوْمُ لا ينْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فيعْتَذِرُونَ", سورة المرسلات: الآية 35،36, فغُشي عليه وحُمل إلى منزله".
كما يستحضر الشيخ حديثاً يقول فيه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر في أمته أقواماً يدخلون الجنة, أفئدتهم مثل أفئدة الطير" ذكره في الجامع الصغير.
بالنسبة للرقص أو الاهتزاز, يذكر الشيخ بن عليوة من سابقة الحبشة الذين دخلوا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد على هيئتهم المعروفة من الرقص ونحوه, وهو عليه الصلاة والسلام ناظر لهم, وعائشة رضي الله عنها تتطلع عليهم من خلفه حتى فرغوا من أعمالهم, ولم ينكر عليهم عليه الصلاة والسلام.
دعونا نضيف (هنا نقطة مهمة) وهو أنه على الرغم من الدليل السني الذي بموجبه وافق النبي عليه الصلاة والسلام على استخدام الأغاني والآلات (الطبل), فإن الفقه الإسلامي الخالص يحرم الموسيقى.
ومع ذلك, يوصى, والنبي نفسه, بتلاوة القرآن على أكمل وجه. ولكن من الذي سيقيم تمييزًا واضحًا بين التلاوة والغناء؟ ألم يكن لمحمَّدٍ عليه الصلاة والسلام شاعره المفضل الحسن بن ثابت؟ قال لنا الشيخ بن عليوة ذات يوم: "إن الموسيقى ليس لها حواف مثل الكلمة الجافة, إنها سائلة ومتدفقة كجدول, تحمل الإنسان إلى الله".
الخلوة
من أهم ابتكارات الشيخ بن عليوة, التي انفصل بواسطتها عن الدرقاوية, أن يتخذ في الجزائر "الخلوة" (وهو الاعتكاف في غرفة منعزلة) وهي عادة كانت تمارس من قبل جماعة الإخوان الأتراك الخلواتية.
يعتكف المبتدئ في الخلوة, حيث هناك فقط يمكن له الحصول على فتح بصيرته ومشاهدة الأنوار الإلهية. يقول الشيخ: "والخلوة, هي غرفة أضع فيها المريد بعد أن أقسم لي ألا يتركها, إذا لزم الأمر, لمدة أربعين يومًا, ووظيفته الوحيدة هي أن يكرر, دون توقف, ليلا ونهارا, الاسم الأعظم بالمد والتعظيم حتى نفاد النفس. ولكن قبل ذلك عليه أن يقرأ صيغة الشهادة خمسة وسبعين ألف مرة, ويصوم في النهار ولا يفطر إلا في المساء".
بعض الفقراء يتحصلون على الفتح بصفة مفاجئة بعد بضع دقائق من الذكر, وهناك آخرون يستغرق الأمر معهم عدة أيام, وآخرين عدة أسابيع. أعرف شخصيا فقيرًا استغرق ثمانية أشهر, كل صباح كان يعود إلى الخلوة ويقول لي: "قلبي ما زال قاسياً", وفي النهاية تمت مكافأة جهوده. أثناء وجوده في الخلوة, يجب على المبتدئ أن يكرر الاسم الأعظم حتى يأتيه النوم, نومٌ مستولي, كما يقول المجربين, برؤى صادقة. في الواقع, إن مدة وسبل هذه الخلوة متفاوتة للغاية: في مدينة الجلفة مثلا, تستمر الخلوة سبعة أيام, وللأكثر حماسة, أسبوعين. في شرق الجزائر, الحد الأدنى هو أيضًا سبعة أيام. في منطقة بجاية, بعد إعادة صيغة الشهادة خمسة وسبعون ألف مرة, يكرر المبتدئ الاسم الأعظم لمدة ثلاثة أيام متتالية.
نتيجة لهذه التمارين الورعة, يدرك المنتسب بشكل حدسي الذات الإلهية. يزعم البعض أنهم شاهدوا في الخلوة أبرز شخصيات الإسلام (الصحابة), بل إن هناك من رأى النبي عليه الصلاة والسلام, ومنهم من شاهد التجلي الإلاهي. وتجدر الإشارة إلى أن الشيخ بن عليوة كان يُشْتَبَهُ بهِ وبشدة, في رأينا, بممارسة التنويم المغناطيسي, الذي كان قد تغلغل في سره أثناء إقامته في المشرق (يظن الكاتب أن الشيخ بن عليوة تحصل على العلم اللدني والحكمة من المشرق). ووفقًا لتقرير مخابراتي لسنة 1930 لوالي قسنطينة, فعند مغادرة المريد الخلوة بتلك الديار, يتم تزويده بصورة دائرية, يجب أن يحدق بها بعناية حتى تكشف له الرؤية ببصيرته.
الحضرة أو العمارة
وأخيرًا, الحضرة العلاوية. يقول أحد مريدي الشيخ بن عليوة من أصل أوروبي وهو عبد الكريم جوصو: "كنت ذاهبًا يوما بصحبة شيخي وصديقي (الشيخ بن عليوة) لأتجول بين إخواني في الدين والطريقة: كان الجميع يعلم أنني ضيف شيخهم, وأراد الجميع تقبيلي. إخواني الفقراء خنقوني. لم تحط شفتي من قبل على الكثير من اللحى الخشنة مثل هذا اليوم, لم يتم تقبيل خدي من قبل بكثرة من أفواه الذكور. ولكن هذه العناق كانت صادقة للغاية, وشعرت بأنني محاط بكثير من الحب لدرجة أنني لم أشعر بالاشمئزاز من احتضان البرانس البالية للبدو المتضورين ...ثم جاء الليل وأضيئت الأضواء, اجتمع الفقراء في جمعٍ واحدٍ وقاموا بسماع قصائدهم الدينية, وكانت معظم تلك العبارات تردد رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا إله إلا الله "... فوجدت نفسي أتمايل بصدري يمينا وشمالا متبعا إيقاع القصيدة التي كان ينشدها بصوت عالٍ طفل يبلغ من العمر حوالي عشرة أعوام, فوجدت نفسي أردد مع الجماعة التي فاقت ثلاثة آلاف حنجرة ... ثم عند إشارة من سي أحمد بن عليوة, صمت جميع الفقراء ثم قاموا, وتخلص الكثير منهم من برانيسهم وألقوا بها حولنا, وسرعان ما تم عزلنا بجدار من البرانس. وتزاحم الفقراء في صفوف متتالية ممسكًا كل واحد منهم بيد الآخر وبدأوا في الذكر, يثنون ركبتيهم قليلاً. أصوات برية ووحشية ومرعبة تنطلق من آلاف الصدور, نوع من الهتهات, الذي بدى مستمدًا من الصدور, أعقبه رجوع أجش, وبدأ بإيقاع ثنائي النبض, متسارعًا ... بعض الأحيان نسمع صيحة محب سقط أرضًا, غير قادر على تحمل قوة الذكر (باسم الصدر) الذي هوَّ "هُو" آخر حرف من اسم الله ُ..... كنت محاطًا بكتلة متراصة من عدة آلاف من البدو المتحمسين الذين كانوا يضخون دائمًا, مع المزيد والمزيد وبجنون عنيف, هويتهم المرعبة, هوُ, هوُ, هوُ! ... ثم رفع الشيخ يده, وتوقف الجميع في الحين.
الغبطة العلاوية
يعتبر الشيخ بن عليوة من أكثر العارفين احترامًا وتقديرًا للنصوص المقدسة، لكنه كان ينظر إليها من منظور مختلف. فمن خلال نظامه في القراءة الرمزية ونظريته في التأويلات المتدرجة، كان يرفض التزمت الضيق الذي يتمسك بحرفية الكلمات، وهو ما يفعله أولئك الذين يكتفون بالطقوس الظاهرية. بالنسبة للصوفي، لا يمكن أن يكون النص المقدس سوى ترجمة أولية وفجة لما يستعصي على الترجمة. فما قيمة الكلمات، حتى لو كانت بلغة القرآن، في التعبير عما لا يمكن التعبير عنه؟ إن التيار التقليدي يمارس تأويلاً حرفيًا وماديًا، مما يحط من سمو الآيات ويُقيد معناها في إطار ضيق.
في فكر بن عليوة، النص المقدس ليس مجرد كلمات جامدة، بل هو متصل بـالنور الرباني، ويجب أن يتمدد ويتسع ليتناسب مع حاجات القلب. لكن هذه الحاجات لا يمكن أن يرضيها العقل المحض وحده. فمهما حاول الإيمان أن يميل نحو الحدس، فإنه لن يمنح أبداً الإدراك الفوري والمكثف لله تعالى. سيبقى الفهم العقلي محصوراً في إطار ضيق وبناء خطي، بينما يفيض تيار الحياة المتواصل في كل لحظة.
لقد وضع الشيخ بن عليوة منهجًا واضحًا للوصول إلى الله تعالى، ويتكون من ثلاث مراحل أساسية: المرحلة الأولى: الذكر العام. تُعتبر هذه المرحلة فترة اختبار، حيث يركز السالك على الصلاة والعبادات مع حالة من الزهد والتضرع. الهدف هو تهيئة النفس والروح للانتقال إلى مراحل أعلى. المرحلة الثانية: الذكر الخاص. في هذه المرحلة، يستعد المريد لاجتياز المقامات الروحية من خلال التعمق في العلوم الصوفية (أي فهم وإدراك ما بين السطور وما وراء الكلمات). هنا، يبدأ في رؤية الأنوار الإلهية التي تهيئه للوصول إلى المرحلة النهائية. المرحلة الثالثة: الفناء في الله. هي قمة الرحلة الروحية. يستسلم السالك بالكامل ليذوب في الذات الإلهية، وتُغمر روحه تدريجيًا بالجوهر الإلهي، محققًا بذلك أعلى درجات القرب من الله.
للوصول إلى الله، تتبع طريقتنا الصوفية ثلاثة مسارات: التطهير، والتنوير، والتوحيد. فمسار التطهير يهدف المجاهدة في هذا المسار إلى تخليص النفس من عيوبها. أما مسار التنوير ويأتي بعد التطهير، فينفتح أمام النفس الطريق الروحي، الذي يوصلها في نهايته إلى مقامات الكمال والفناء في الله. ثم يأتي بعده مسار التوحيد: وهو عن طريق "الذكر الخاص" الذي يخص فقط دائرة المريدين الذين وصلوا إلى هذه المرحلة. لم يعد في هذه المرحلة تأمل أو مراجعة للنفس، بل يجب على المريد أن يستسلم لحالة من الغيبة أو النشوة الروحية, فتتجلى الذات الإلهية للمريد في صورة الاسم الأعظم، وهو لفظ الجلالة "الله", يكشف له الشيخ عن هذا الاسم في "مركز نوراني". خلال هذه الحالة من النشوة، يجب على المريد أن يتبع توجيهات شيخه لتجنب السقوط في المهالك.
هنا ملخص لتجربة ابن عربي، التي كان الشيخ بن عليوة يؤكد دائمًا على أنه يتبع نهجها: الإنسان مرآة الله في فكر ابن عربي. يقول ابن عربي أن الذات الإلهية الكاملة، بكل أسمائها وصفاتها، لا يمكن أن تظهر وتُعرف في الوجود المادي إلا من خلال المخلوقات، وعلى رأسها الإنسان. لذلك، فالإنسان هو المرآة الجامعة التي تتجلى فيها كل أسماء الله. هو الوسيلة التي يرى الله بها كمال جماله وجلاله. وبهذا المعنى، يصبح الإنسان هو الغاية النهائية من الخلق، لأنه يحقق الغاية من تجلي الذات الإلهية. إذن، العلاقة بين الخالق والمخلوق ليست علاقة طرفين منفصلين، بل هي علاقة تكاملية. فمثلما يحتاج الإنسان إلى الله ليوجد، فإن الله يتجلى كماله في الوجود من خلال الإنسان.
من خلال رحلته الروحية وفناءه في الله، وصل الشيخ بن عليوة إلى إدراك عميق بأن كل شيء في الوجود هو جزء من الكل. فقد أصبح يرى كل شيء في نفسه وكل شيء في الآخرين، مؤمنًا بأن "الكل موجود في كل مكان، وكل كائن هو الكل". في هذه الحالة من الوعي الكلي، تزول الحجب وتتكشف الأسرار الوجودية في لحظة واحدة. يبرز هذا المفهوم التشابه بين الفكر الصوفي الإسلامي والفكر الأفلوطيني (نسبة إلى أفلوطين المصري)، حيث يعتبر كلاهما أن وجود المخلوقات ليس منفصلاً عن جوهر الخالق. هذا التجانس الفكري يؤدي إلى مفهوم التكامل المتبادل بين الإنسان والله. وكما أن الذات الإلهية تتجلى في الكون من خلال تجليات متدرجة، فإن الإنسان يمكنه أن يصعد في رحلته الروحية عبر مقامات مختلفة، لتكون الذات الإلهية هي النهاية والغاية. وهذا المفهوم يتماشى بشكل كبير مع ما ورد في كتاب "التاسوعات" لأفلوطين المصري.
كان الشيخ بن عليوة يحمل في داخله تساؤلاً، يمكن وصفه بأنه ذو طابع فلسفي غربي، حول تجربته الصوفية. فكان يتساءل أمام خواصه أحيانًا: "ماذا لو كانت نشوة الجذبة ليست سوى وهم؟ هل هي مجرد انعكاس لا إرادي للروح؟ وعندما أظن أنني أتصل بالواحد الأحد، هل أنا في الحقيقة أرى نفسي؟ وهل من الضروري أن أتخلى عن كل ما هو حسي ومادي لأدركه؟ وإن كان الأمر كذلك، فهل أنا متأكد من قدرتي على تحقيق ذلك؟"
كان الشيخ بن عليوة يمارس نقدًا ذاتيًا قاسيًا لطريقة إدراكه للذات الإلهية. فقد كان يرى أننا، كبشر، ننسب لله صفات بشرية مثل الذكاء، والإرادة، والعدل، وهي في الحقيقة صفات خاصة بنا. وبالرغم من اطلاعه المحدود على الأفكار المعاصرة التي تنتقد الفكر الأرسطي لتقديمه تصورًا عقلانيًا جدًا عن الله، إلا أنه كان يتساءل: "هل الزهد، الذي يُعتبر وسيلة للوصول إلى الواحد الأحد من خلال حالة من الغيبة الصامتة، ليس سوى وهم كبير؟ وهل ما ندركه هو الجوهر الإلهي الخالص حقًا، أم أنه مجرد إبداع من عقولنا وحواسنا، حتى بعد أن حاولنا تجريدها من كل ما هو مادي؟"
وصل الشيخ بن عليوة إلى نفس المعضلة التي واجهها القديس يوحنا الصليب (Jean de la Croix)، وذلك رغم الفجوة الزمنية واختلاف المدارس الروحية. يقول يوحنا الصليب: "من أراد أن يفنى في الله، عليه ألا يعتمد على الحواس أو الخيال, بل يجب أن يعتمد على الإيمان وحده بكيانه، الذي لا يخضع للعقل أو الرغبات أو الخيال أو أي حاسة أخرى. وفي هذه الحياة، لا يمكننا إدراك جوهر الله الحقيقي, فمهما كانت تجربتنا الروحية سامية، فإن ما نشعر به أو ندركه من الله يبقى بعيداً جداً عن حقيقة الله المطلقة."
هذه هي خلاصة التأمل على الطريقة العلاوية، حيث توضح أن الوصول إلى الله يتطلب تطهيرًا كاملاً للعقل، والمشاعر، والحواس. ويبقى هناك تساؤلاً جوهريًا: هل يمكن تحقيق هذا التجرد بشكل مثالي؟ بما أن الإنسان لا يمكنه التخلص من ذاته بالكامل، فإن هناك دائمًا خطر أن يكون الزهد، مهما كان عميقًا، مجرد وهم. فستبقى هناك مساحة للشك والقلق، وقد يكون ما يُظن أنه فناء في الذات الإلهية ليس سوى انعكاس لعبادة الذات. وفي نهاية المطاف، إذا أُخذ هذا المنهج إلى أقصى حدوده، فقد يتحول إلى عدمية يشوبها قلق، حيث يدرك السالك أن عقله قد فشل في إدراك الحقيقة، وأن حدسه أيضًا عاجز عن الوصول إلى جوهر الذات الإلهية.
تطورات الطريقة (العلاوية)
شهدت الطريقة العلاوية للشيخ بن عليوة، بعد عام 1920، انتشارًا سريعًا جدًا. وقد جذبت عددًا من المثقفين الفرنسيين، ومن بينهم السيد "عبد الكريم جوصو"، الذي قدمنا مقتطفات وافرة من كتاباته. رأى هؤلاء الأتباع في الشيخ بن عليوة تجسيدًا للمأساة التي يعيشها الفكر الحديث، ورأوا فيه رد فعل للروح ضد حضارة ميكانيكية تنسى القلب وتختزل العالم في هندسة باردة. كان هؤلاء الأتباع، وهم في الغالب من ذوي الثقافة الرفيعة والاستقامة الروحية المؤكدة، ينتمون إلى فئة من العقول التي كانت تتوق إلى التحرر والتجديد الروحي. في حوالي عام 1923، بحث هؤلاء عن أسباب قوية للحلم والعيش في الفكر الشرقي، وكان بن عليوة أحد أساتذتهم. لقد أنارهم كشفه المفاجئ، فاتبعوه بحماس، سعداء بفكر يتجاوز عقبات العقل ليصل إلى الإله في قفزة واحدة. فتأثير بن عليوة على أتباعه الأوروبيين، يظل بالنسبة لهم واحدًا من أولئك الحكماء الذين يحملون تعليما أتى بأنفاسًا بعيدة من آسيا. كتب السيد "فريثجوف شوان" أو عيسى نور الدين أحمد في الإسلام: "يمكن مقارنة الشيخ بن عليوة بأحد هؤلاء الرسل أو بقديس من العصور الوسطى أو كاهن سامي في قلب القرن العشرين. كان هذا هو الانطباع الذي تركه فينا أحد أعظم سادة التصوف في عصرنا: الشيخ الحاج أحمد أبو العباس بن مصطفى بن عليوة، المعروف أيضًا باسم الشيخ العلاوي، الذي وافته المنية قبل بضعة أشهر في مستغانم (14 يوليو 1934م)".
إن ما يميز التصوف في المغرب العربي هو قدرته على التأثير في مستويين مختلفين تمامًا: الفكر العميق والتزمت الشعبي في القرى. الشيخ بن عليوة لم يكن استثناءً, فقد استطاع أن يوقظ الدعوة الروحية في جميع الأوساط. وكانت جهوده الدعوية ذات نتائج عظيمة، سواء في باريس، حيث كانت هناك زاوية مخصصة للعمال المسلمين في 26 شارع سان جيرمان، أو في الجزائر.
عادةً ما كان أتباع الشيخ بن عليوة من المناطق الأكثر تخلفًا (علميا). في منطقة القبائل، لم يحظَ إلا بنجاح محدود (في بعض المناطق منها فقط)، لكن كان لديه أتباع في المغرب، وتونس، وطرابلس، واليمن، وسوريا. صحيفته "البلاغ الجزائري" كانت تُقرأ في الجزيرة العربية، وإنجلترا، وأمريكا. أثارت دعوته في بعض المناطق، خاصة في دائرة سطيف، حالة من الاضطراب والتمرد الخفي، التي استطاع بن عليوة بصعوبة تهدئتها. بل إن الأمر وصل إلى أبعد من ذلك، فبعد جدال في الصحافة، حاول أحد المتعصبين للشيخ بن عليوة (وهو من برج بوعريريج, بمبادرة فردية دون علم الشيخ بها)، وهي اغتيال الشيخ عبد الحميد بن باديس مدير جريدة "الشهاب" في قسنطينة، الذي كان قد انتقد بشدة الطريقة الجديدة. كان أتباع الشيخ بن عليوة، بعد أن تحرروا من سيطرة الزوايا المحلية، (كأنهم) يعيشون في حالة من التنويم المغناطيسي الشديد. كانوا يظهرون ازدراءهم للسلطات، وتخليهم عن متاع الدنيا، وعدم تأثرهم الكامل بمغريات الحياة. بعضهم طلق زوجته من أجل ممارسة الزهد، وآخرون تخلوا عن أملاكهم، واحتفظوا فقط ببرنوس رديء، وأحرقوا الأوراق النقدية التي جمعوها تكريمًا للشيخ (هنا مغالطة: إقرأ المقال التالي). باختصار، كانت تُذكّرنا هذه الحالة من الهوس الروحي، والحماس المفرط للتضحية، في سياق متواضع، بالجو العاصف الذي رافق أعظم الحركات الروحية.
من المؤكد أن ما جذب الجموع للشيخ بن عليوة لم يكن فلسفته اللاهوتية، بل كانت تلك الهبة النادرة من الجاذبية الشخصية التي جعلت منه قطباً لا يُقاوم. وقد وصف السيد "فريثجوف شوان" أو عيسى نور الدين أحمد في الإسلام, هذا الأمر بشكل ممتاز، قائلاً: "كانت إيقاعات الأناشيد، والرقصات، والابتهالات تتواصل في داخله عبر اهتزازات لا تنتهي. كان رأسه يتحرك أحيانًا بحركة إيقاعية، بينما كانت روحه منغمسة في الأسرار التي تنضب للاسم الأعظم، والمخبأة في الذكر. كان الناس يحيطونه بالاحترام والتبجيل الذي يليق بالقديس، والزعيم، والشيخ الهرم، والمحتضر في آن واحد".
يمكننا قياس مدى تأثير الشيخ بن عليوة من خلال الشهادات التالية التي جمعت من تلاميذه. يقول أحد تلاميذه: "إن الطرق الصوفية كلها سواقٍ، لكن الماء النقي لا يجري إلا في قناة بن عليوة". كما قال أحد أتباعه في مقهى بالجزائر: "لم أكن أعرف القراءة ولا الكتابة، والآن أقرأ وأكتب بطلاقة بفضل بركات هذا الشيخ الذي أرسله الله". وفي مثال آخر، ألقى شاب تونسي اسمه محمد العيد بن عبيد البحري، وهو من أتباع الشيخ المخلصين، محاضرة في مدينة تبسة، أثبت فيها أن دور بن عليوة مذكور في القرآن والسنة، وأنه مهدي حقيقي، وأن مهمته ستكتمل عندما يبلغ عدد أتباعه 320 ألفًا، وهو نفس عدد رسل الله الذين سبقوه".
من الصعب جدًا تحديد النطاق الجغرافي للطريقة العلاوية وعدد أتباعها بدقة. بالنسبة للجزائر، يشير إحصاء تم إجراؤه عام 1929 إلى ما يلي:
1. ولاية الجزائر (الجزائر, الأخضرية, المدية , الشلف, جرجرة, درع الميزان) 195 من الأتباع.
2. ولاية وهران (وهران, مستغانم, فرندة, غليزان, سيدي علي, سيدي امحمد بن علي, جبل الناظور, بلعباس, تلمسان) 375 من الأتباع.
3. ولاية قسنطينة (مسكيانة, بجاية, أقبو, قرقور, الطاهر, سطيف, البيبان, المعاضيد, ريغة, باتنة, عين التوتة, قالمة, سوق أهراس, عنابة, القالة) 5855 من الأتباع.
أي ما مجموعه 6425 من الأتباع.
ولكن يبدو أن العدد الحقيقي لأتباع الطريقة العلاوية في الجزائر كان على الأقل ضعف الرقم المذكور. ويعود نجاح الطريقة إلى عدة أسباب, منها التدهور الطرق القديمة, حيث عانت الطرق الصوفية التقليدية من تراجع روحي، حيث أصبحت أكثر استقرارًا وثراءً، مما أدى إلى فقدانها تأثيرها الأصلي. وهناك أيضا عامل التحالف مع السلطة, حيث كان هناك تحالف واضح بين السلطات الاستعمارية والطرق الصوفية القديمة، مما أدى إلى تحول التصوف إلى أداة سياسية، وهو ما ساهم في انقسامها إلى جماعات صغيرة واستغلالها من قبل بعض المقدمين الطموحين. ثم تأتي الطبيعة الثورية للشعب الجزائري, حيث يميز السكان الأصليون في الجزائر بالبحث عن كل ما هو جديد، ورغبتهم في التمرد الأخلاقي على الأفكار والعقائد السائدة. وهذا يعكس الطبيعة الثورية المتأصلة في الشعب العربي-البربري, الذي ميزته في السعي للوحدة عند تعرضه للغزو، والتفكك عند التحرر.
لا ينبغي لنا أن نستهين بدور الشيخ بن عليوة، فهو لم يكن مجرد مُجدد للتصوف عند بعض خواص أتباعه، بل كان لنظامه تأثير عميق وواسع. بفضل شخصيته الجذابة، وهيبته، وتأثيره الروحي، استطاع أن يخلق نوعًا من الوعي الجماعي والنشوة الدينية التي كان من الصعب على العامة مقاومتها. في بداية دعوته، عندما كان يُنظر إليه بشك، بعثت (السلطات الاستعمارية) مراقبون (جواسيس) لمراقبته. لكنهم عادوا منبهرين، ومقتنعين بفكره، ومأخوذين بنفس النشوة الروحية التي تمكن الشيخ بن عليوة من إتقانها، والذي أخذ سرّه معه (بعد انتقاله).
كان نجاح الطريقة العلاوية التابعة للشيخ بن عليوة في منطقة الريف الشرقي بمدينة مليلية باهرًا بشكل خاص. فقد شارك 1700 شخص من الريف في رحلة الزيارة إلى مستغانم عام 1931، و2200 في عام 1932، و3100 في عام 1933. يمكن تفسير هذا التوسع في منطقة بعيدة نسبيًا بأن الشيخ بن عليوة قدّم تصوفًا يجمع بين الفلسفة العميقة والطقوس البسيطة التي تجذب عامة الناس. فبينما كان قلة من النخبة (الخاصة) في مليلية يستطيعون فهم نظرياته المعقدة حول "إدراك العالم المطلق"، كانت الجماهير تنجذب إلى طقوسه المُلحة، والتي صُممت بعناية لتحقيق حالة من الغيبة أو التنويم الروحي. لم يشهد تاريخ الطرق الصوفية الإسلامية جهدًا أقوى من هذا في برمجة الأرواح بهدف استغلال البعد الإلهي. لقد استخدم بن عليوة في نظامه الغرائز المتوارثة, الأساليب الحديثة وأعمق الأسرار النفسية, وذلك لإحداث حالة من الهلوسة الروحية في النفسية الدينية للجماهير البربرية، التي كانت لا تزال تتميز في منطقة الريف بالخرافات، والتدين البسيط، والإيمان بقدرة الأولياء على عمل المعجزات. في تلك المناطق، لم تكن عجائب الطرق الأخرى أو سحر الأولياء المحليين تقارن بسحر وجاذبية بن عليوة على العقل الريفي. ويُذكر أن نجاحه الأكبر كان أيضًا في أكثر المناطق تخلفًا في بلاد القبائل البربرية.
هنا حقيقة مهمة. عندما اعترضنا على أحد أتباع الشيخ في منطقة الريف، بأن الشيخ يقيم في الجزائر، أي في بلد خاضع للاستعمار الغربي، أجاب بأن الشيخ في الحقيقة يعيش في نفس الوقت في مكة المكرمة. وأضاف أن هناك شخصية أخرى للشيخ، "نسخة طبق الأصل" منه، لا تشبهه وفي نفس الوقت هي هو، وهذه النسخة هي التي تقيم في مستغانم بالجزائر. ومرة واحدة في السنة، أثناء زيارة أتباع الطريقة، تلتقي الشخصيتان في مستغانم. هذا الالتقاء المفاجئ، والذي لا يراه العامة، يُعرف فقط لدى بعض الخواص المختارين، الذين يستحقون بفضل إيمانهم القوي وإخلاصهم أن يشهدوا هذه المعجزة.
إن ظاهرة "الانقسام الجسدي" ليست نادرة في تاريخ الأولياء بالجزائر. فعلى سبيل المثال، نجد قبرين للشيخ سيدي عبد الرحمن، اللذين يحظيان بتبجيل كبير لدى أتباع الطريقة الرحمانية في الجزائر. كما توجد مقابر مزدوجة لمولاي يعقوب في منطقة الريف، ولـ "بو عسرية" في منطقة الغرب المغربية. ولكن كانت هذه الظاهرة تُنسب دائمًا إلى القبر نفسه، أي بعد وفاة الولي. أما في حالة الشيخ بن عليوة، فقد نُسبت هذه الازدواجية إليه وهو لا يزال على قيد الحياة، مما يجعل حالته فريدة من نوعها.
وفقًا للتقييمات التي أجريت، بلغ عدد أتباع الطريقة العلاوية في منطقة الريف حوالي 7,000 شخص، من بينهم 17 مقدمًا، وذلك في عام 1932.
لا توجد لدينا أرقام دقيقة عن انتشار الطريقة في الخارج. لكن الشيخ بن عليوة صرح لأحد محرري جريدة "L'Echo d'Oran" بأن عدد أتباعه يبلغ 100,000 شخص. بينما يرى السيد "بروبست-بيرابن" أن هذا الرقم يتجاوز 200,000 شخص.
منذ وفاة الشيخ بن عليوة، بدأت الطريقة العلاوية في التفكك على الرغم من جهود خليفته الروحي، الشيخ عدة بن تونس. إذن القانون الأبدي للمغرب العربي هو التفكك الديني الذي طغى على الوحدة الروحية والتنظيمية. فقد تحول الأتباع في المنطقة الشرقية إلى جماعات صغيرة ومستقلة، وعاد أتباع منطقة الريف إلى الانضواء تحت سلطة شيوخهم التقليديين. أما جريدة "البلاغ الجزائري"، فقد فقدت بوصلتها الفكرية، وأصبحت بلا عقيدة واضحة، وتُقدم بأسلوب متواضع، وتتنازعها عدة أقلام, يبدو أن اهتمامهم بالدعاية أكبر من اهتمامهم بالروحانيات.
يبدو أن الطاقة الخلاقة التي بثها الشيخ بن عليوة في طريقته قد تلاشت. بعد عامين فقط من وفاته، لم يتبق من بن عليوة سوى خيبة أمل لحلم عظيم. فما الذي تبقى من تعاليمه؟ مجرد قصاصات باهتة من الشعائر. أما عقيدته التي أرادها أن تكون محررة، والتي كانت تحمل بصمات نشوته الفكرية، فقد أصبحت مجرد فقه جامد وبلا روح عند تلاميذه، مفتقدةً لروح الأستاذ المتقدة التي كانت تحركها.
منهاجه السياسي والأخلاقي
لا يجب أن نتوقع من الشيخ بن عليوة أن يكون قد وضع تصورًا سياسيًا متكاملًا. فقد كانت أفكاره موجهة بشكل أساسي نحو القضايا الدينية، ولم يتطرق إلى العلاقات بين الدول والأفراد إلا بشكل عابر. كانت آراؤه في هذا الشأن تعكس جيله وثقافته، فهو جزائري نشأ فكريًا بين عامي 1890 و1900، وتلقى تكوينه في مجال التأمل الصوفي، وقضى عشر سنوات من حياته في الشرق. (ملاحظة من درويش العلوي: لم يقدم السيد "بيرك" أي دليل يثبت أن الشيخ العلاوي قضى عشر سنوات في الشرق. هذه المبالغة هي مجرد خيال وتصور من جانب المؤلف. لم يذكر الشيخ نفسه، ولا أقرب تلاميذه، مثل هذه المعلومة. إن جميع تفاصيل حياة الشيخ العلاوي معروفة لدى كتاب سيرته).
كما ذكرنا سابقًا، كان لدى الشيخ بن عليوة إحساس عميق بالتضامن الإسلامي. لم يتوقف عن الدعوة إلى وحدة المسلمين، متجاوزًا الفروقات المذهبية والعرقية. وقد تجلى ذلك في جهوده الحماسية لنشر اللغة العربية، باعتبارها لغة العبادة في الإسلام.
إن إقامة الشيخ بن عليوة الطويلة في المشرق العربي جعلته على دراية بالجماعات السرية التي كانت تناضل، في عهد الحكم العثماني، من أجل خصوصياتها اللغوية. يبدو أنه كان يعرف هذه الجماعات بعمق، وربما كان له علاقات مستمرة معها. ويمكن أن نرى فيه آثارًا خفية للوحدة الإسلامية (الجامعة)، إذا كان هذا المفهوم يعني الدعوة إلى تقريب المسلمين وتعظيم الإيمان. لكن مما لا شك فيه أنه كانت له علاقات مع معظم القادة المسلمين الكبار. فقد نشرت جريدته "البلاغ الجزائري" مقالات للسيد شكيب أرسلان، وللشيخ التونسي الثعالبي.
كيف كان ينظر الشيخ بن عليوة للعلاقة بين فرنسا والسكان الأصليين؟ (في إحدى لقاءاته الصحفية وبحنكته الدبلوماسية) كان الشيخ يرى أن الهيمنة الفرنسية جلبت الكثير من الفوائد للجزائر. فبفضل أسفاره ومقارناته، كان يعتقد أن الحكم الفرنسي كان "ليبراليًا وخفيفًا". لشرح وجهة نظره، قال إنه لو أُظهر للسكان الأصليين بلاد الجزائر قبل الغزو، بكل ما فيها من أراضٍ مهملة ومستنقعات تنتشر فيها الأمراض, وسكان قضت عليهم الأوبئة والحروب الداخلية والفقر, ونقص في الطرق ووسائل الاتصال, وشعب يرزح تحت سيطرة بضعة حكام مستبدين. وفي المقابل، لو عُرضت عليهم الجزائر في زمنه، بكل ما فيها من مدن كبرى، وسكك حديدية، وطرق معبدة، وموانئ ضخمة وحقول شاسعة من القمح والشعير والكروم، وحدائق خضراء وعدد كبير من المدارس والمستشفيات وحكام يتسمون بالعدل والرحمة, فمن الطبيعي أن يقوم السكان بالمقارنة، وسيزداد حبهم لفرنسا.
قال: "هناك فكرة تبدو لي جيدة، وهي أن يتم بناء نصب تذكاري في ساحة الحكومة بالجزائر، ولو عن طريق التبرعات إذا لزم الأمر." وأضاف: "هذا النصب سيمثل فرنسا وهي تبتسم لمستوطن وفلاح يتعانقان، وعلى النقوش البارزة، سيتم تجسيد الجزائر قبل الغزو ببعض المشاهد من جانب، والجزائر الحالية من الجانب الآخر. هذه هي الوسيلة الوحيدة، في رأيي، لمحو الماضي الصادم ولإظهار للسكان الأصليين والقوى الأجنبية أن فرنسا جاءت إلى الجزائر من أجل التمدين وليس للسلب والنهب".
ومع ذلك، لم يتردد الشيخ بن عليوة في توجيه انتقاداته (لفرنسا). فقد ظهرت في صحيفته "البلاغ الجزائري" بعض الملاحظات المؤسفة. فمثلاً، كان يرى أن الإدارة الفرنسية تعتبر السكان الأصليين في الجزائر "عرقًا أدنى". كما كان يرى أنهم دائمًا من يدفع ثمن الصراعات الأوروبية. وكان يشتكي من أن الصحافة باللغة العربية ليست حرة، ويتساءل: "إذا كان الشعب الأصلي في هذه البلاد غير قادر على استخدام صحافته للتعبير عن شكواه، فما هي الوسائل المتبقية له إذن؟". في هذه اللحظات، يصبح أسلوب بن عليوة حزينًا ومرهفًا، وكأنك تسمع أنينًا مكتومًا, تتسارع كلماته وتصبح متقطعة، مليئة بالألم والشجن.
كان أحد المواضيع المفضلة لدى الشيخ بن عليوة هو نشاط المبشرين. على الرغم من أن المسيحية كانت دائمًا تثير فضوله، إلا أنه كان مصرًا على رفضه للنشاط التبشيري الذي لاحظه في بعض الأوساط المحلية. كان يرى أن "الشعب المسلم مهدد في كيانه من عدة جهات، لكن خطر البعثات التبشيرية المسيحية هو الأخطر والأعظم". ويضيف: "إن عدم اكتراث المسلمين وممثليهم بهذا الخطر هو ما يجعله ينمو ويتفاقم". كان بن عليوة يتطرق لهذه المسألة بشكل متكرر، وبأسلوب حاد في بعض الأحيان. ويجب الإشارة إلى أن جميع الصحف العربية في تلك الفترة، من تونس إلى بغداد، كانت تخوض نفس المعركة.
أخذ بن عليوة موقفًا صريحًا ضد الشيوعية. ففي 6 يونيو 1934، نشرت جريدة "البلاغ الجزائري" رسالة من أحد أتباعه، السيد "عبد الله بن علي الحكيمي اليمني"، تهاجم بشدة الفكر الماركسي الحديث وتصفه بأنه قمعي، مادي، وملحد. كان الشيخ يؤيد التقدم بشكل كبير، لكنه كان يريده أن يتحقق في جو من الثقة والهدوء. ورغم دعوته إلى فضائل الفقر، كان يعتقد أن لكل إنسان الحق في الحد الأدنى من الرفاهية، وأن الملكية، مهما كانت بسيطة، هي خدمة اجتماعية. في رأيه، التملك يعني العمل من أجل الصالح العام، وتمكين الآخرين من العمل أيضًا, هو العمل من أجل النظام وفي إطاره. لم يكن هناك شخص أبعد منه عن الثورة، فقد كان يكره العنف، ولم يكن يقبل بالحرب إلا دفاعًا عن الإيمان. وكان يتابع باهتمام شديد جهود أوروبا في سبيل إنشاء منظمة دولية من أجل السلام.
كان يرى أن المستقبل المدني للمسلمين الجزائريين يكمن في التجنيس مع الاحتفاظ بقانون الأحوال الشخصية (الشريعة الإسلامية) لأنه، كما رأينا، لم يكن يقبل أن يتخلى أبناء دينه عن حقوقهم في الميراث والزواج. وقد استشهد بمثال بولندا، ويوغوسلافيا، ورومانيا، ليُظهر أنه يمكن للمسلم أن يكون مواطنًا صالحًا، ويشارك في الحياة العامة ويتحمل مسؤولياتها، دون أن يتخلى عن ممارسة الإسلام بشكل كامل.
إن التصريحات الهامة التي أدلى بها الشيخ لإحدى الصحف الجزائرية تساعدنا على فهم مسار فكره بشكل أفضل. وعندما سُئل: "هل الدين الإسلامي معادٍ للحضارة والتقدم الحالي؟" أجاب: "أبدًا. الدين الإسلامي ليبرالي جدًا، ويوصي بالعلم والمعرفة، سواء في البلدان المسلمة أو المسيحية. بل إنه يضع العلم فوق الممارسات الدينية نفسها. عندما نقرأ تاريخنا، نجد أن العرب كان لديهم مهندسون معماريون، وأطباء، ومهندسون، وبحارة، وجغرافيون، وفلاسفة أيضًا. لقد اهتم العرب بالحضارات القديمة، وخاصة الحضارة اليونانية. بالفعل، تمت ترجمة أعمال المؤلفين اليونانيين وكتبهم لا تزال موجودة. فلماذا لا نهتم نحن، الذين نعاصر الحضارة الأوروبية، بهذه الحضارة الرائعة؟ من جهتي، لا يمر يوم دون أن أوصي أتباعي بإرسال أبنائهم إلى المدرسة لتعلم اللغة الفرنسية، وأن أدعو من ينتمون إلى طريقتي إلى الالتزام بقواعد النظافة، واحترام ممتلكات الجار، والامتثال للقوانين الفرنسية".
وأضاف الشيخ بجدية: "الديانة الإسلامية مبنية على احترام جميع الأديان، والأخلاق، والصدقة. إن تعلم قيادة السيارة، أو استيعاب الأعمال المدهشة للميكانيكا، أو تعلم التفكير والتأمل في كل ما يمكن أن يجلب الرفاهية للإنسان، كل هذا لا يتعارض مع الدين." وتابع: "قيل لي إن باستور كان رجلاً متدينًا، لكن هذا لم يمنعه من تقديم أعظم الخدمات للإنسانية باختراعاته الرائعة. لا! الدين لا يمنع الإنسان من الوصول إلى أسمى قمم العلم، فالدين ما هو إلا مرشد. إنه يسعى لجعل الإنسان أفضل من خلال القضاء على غرائزه السيئة. ولو أراد الله أن يترك الإنسان لنفسه، لما أنزل على أنبيائه الإنجيل، والتلمود، والتوراة، والقرآن ليهدوا البشر إلى الطريق الصحيح. نحن لا نفعل شيئًا سوى إعادة إحياء مبادئ سليمان، وإبراهيم، والمسيح، ومحمد في أذهان الناس".
لم يُقم بن عليوة أي مذهب سياسي خاص به، كما أنه لم يبنِ أخلاقيات شخصية تخصه وحده.
إن الأخلاقيات التي كان يدعو إليها الشيخ بن عليوة أمام تلاميذه هي نفسها أخلاقيات الطريقة الدرقاوية. هي أخلاقيات دينية في جوهرها، تابعة لنهج الطريقة الصوفية، وتقوم على مبادئ عامة مثل العيش في بساطة، مع الزهد والعبادة, الصدقة, تجنب مخالطة أصحاب السلطة, التواضع في القول والمظهر. ولكن يبدو أن الشيخ في سنواته الأخيرة قد وسع من إدراكه للإنسانية، حيث أصبح يركز بشكل أكبر في أحاديثه على الرحمة. وكان يدعو إلى نسيان الإساءات وضرورة المسامحة. إن مقولة "أحبوا بعضكم بعضًا"، التي نصح بها المسلمين في البداية، انتهى به الأمر إلى توسيعها لتشمل جميع الأجناس والأديان. تطور فكره الإنساني في مجالسه الخاصة، كان يعترف بأنه يتبنى عقيدة الأحمدية الهندية، التي كانت له علاقات وثيقة معها. وتدعو هذه العقيدة إلى أن الأخوة مع الله تتطلب رحمة عميقة. وقد كتب السيد "بروبست-بيرابن" أنه "كان يعلّم المحبة والأخوة بين الناس". لقد وصل الشيخ إلى نوع من فكر "تولستوي"، حيث كان الرضا بالشر يمتزج بالرحمة، وحيث كان ازدرائه للحياة يضيء بالاهتمام الحنون بالآخرين. ولم يكن الآخرون عنده مقتصرين على البشر فقط، بل شملوا الحيوانات والنباتات. كان يمتلئ بالحماس عند التفكير في ذلك، فتدمع عيناه العميقتان. وكانت مشاعره تخلط في فيض من الحب بين الإنسان، والحيوان، وورقة العشب. وبأسلوبه الشعري المؤثر، وحسه بالصورة التوراتية، وبلاغته المتدفقة، كان يظهر حينها كشاعر للمعاناة الكونية، ونبي إلهي للمصالحة بين الأرواح.
كان هذا الحب الكوني هو أسمى مرحلة وصل إليها الشيخ بن عليوة. قبل وفاته بفترة وجيزة، أخبرنا عن اشمئزازه من الطعام، قائلاً: "أكل اللحم جريمة". وأضاف أن حتى أكل النبات فقط يعتبر اعتداءً على الحياة. ففي نظره، يجب أن تمتد الأخوة الإنسانية لتشمل الحيوانات والنباتات. "إنها ضرورة فظيعة ألا نستطيع العيش إلا على حساب الكائنات الحية. ولكن، يجب علينا تجنب أي جريمة لا داعي لها! قطف زهرة هو قمة القسوة، وقد يكون ذلك سببًا في حرمان الإنسان من رحمة الله العظمى إلى الأبد".
كانت هذه آخر الكلمات التي سمعناها من الشيخ بن عليوة. وكثيرًا ما تساءلنا عما إذا كانت تلك الشفقة الكونية الواسعة، وهذا الاشمئزاز من الطعام الذي كان كائنًا حيًا، قد فاقمت حالته وأسهمت في موته البطيء.
هكذا كان الشيخ بن عليوة...
لنتجاوز الآن التفاصيل الدقيقة ونتجه نحو صورة أشمل. سيمكننا ذلك من تقييم المسيرة الفكرية للشيخ بشكل أوسع، وفهم ملامحها الرئيسية، واستيعاب الأفكار المحورية التي شكّلت عالمه الفكري.
لقد أوضحنا أولاً أن بن عليوة، من الناحية الروحية الباطنية، يتبع التقليد الصوفي بشكل كامل، ولكنه يتجاوزه. فالإله بمفهومه لا يمكن تصوره، بل إنه غير مفهوم عقلانيًا. فتصوره يعني حصره في تصنيفاتنا، وسجنه في كلمة، وتشويهه في عقيدة لا تظهر الحقيقة فيها بدقة أكبر من انعكاس شيء في مرآة مكسورة. إن القول بأن الله هو "الفكر الخالص"، أو "الفكر الذي يفكر في نفسه"، هو بمثابة تصور ورقة الشجرة لإله أخضر بشكل مطلق. هذه كلها افتراضات ساذجة من التجسيد البشري، حيث يتم تأليه صفة بشرية أو نباتية، مثل الفكر أو الورقة. كان بن عليوة يرفض ذلك تمامًا، ولم يكن هناك أحد أبعد منه عن الفهم العقلاني للذات الإلهية.
لقد وصلنا الآن إلى المحطة الثانية في مسار الفكر العلاوي. يرى الشيخ بن عليوة أن الكون هو فيض إلهي لا نهاية له، وأن مبدأه الخالق هو الله. وكلما هبط هذا النور، امتلأ بالمادة، ليصبح الحياة نفسها، أي الإنسان، والحيوان، والنبات، والجماد. فالله هو فيض خارجي وتجلي في المخلوقات. ومع ذلك، فإن الفيض والتجلي يتداخلان ويكملان بعضهما البعض. فإذا بذل الصوفي الجهد اللازم، وزكى نفسه، وتحرر من حجب العقل والحواس، فسوف يدرك فجأة الواحد الأحد. هذا الحدس، شأنه شأن الحدس في فلسفة "برجسون"، هو جهد يتجاوز نفسه. وعندما يتحقق هذا الحدس، بعد معاناة قاسية، ستكون النتيجة النهائية هي الفناء في الله حتى الفناء الكامل.
وهكذا وصلنا إلى ذروة التأمل عند الشيخ بن عليوة. فقد كان يطرح تساؤلاً جوهريًا: "هل هذا الإدراك للذات الإلهية ليس سوى وهم عظيم؟ هل الحوار الروحي بين الله والروح ليس في الحقيقة سوى حوار داخلي للروح مع نفسها؟ هل نحن متأكدون من أننا ندرك الله بحدسنا العميق، وليس مجرد إسقاط أخير لصفاتنا البشرية عليه؟".لم يصرح بن عليوة بهذه الأفكار بشكل مباشر، ولكنه ألمح إليها وأشار إليها. كان هذا التساؤل يمثل له قلقًا مؤلمًا ونقاشًا مأساويًا لم يكن يرى له نهاية. لأن الإجابة على هذا التساؤل، في حالة الإيجاب، ستؤدي إلى العدمية الكاملة، وإلى شعور الإنسان بالوحدة في فراغ أبدي.
ثم قمنا أخيرًا بتحليل الكيفية التي استطاع بها الشيخ أن يدمج فلسفته الباطنية في العقائد الإسلامية، سواء عن قصد أو دون قصد. لقد رأيناه يجدد التفسير "الرُشدي" ويحوّل اعتقاده الديني إلى فكرة فلسفية، والعكس، من الفكرة الفلسفية إلى النشوة الروحية. كان يؤمن بتعدد معاني النصوص، وبصحتها التامة، سواء كانت حرفية أو رمزية. كما كان يقبل بالحياة الروحانية التي تتجسد في الألفاظ والشعائر الدينية, لكنه تجاوز بذلك جمود الشارحين والمتزمتين، وارتقى فوق النصوص ليدرك معناها الكوني المتقد. وكان يؤمن بتطور العقائد، حيث تكيّف الحكمة الإلهية نفسها لتناسب كل عقل وكل جيل، مثلما تخصص لكل عصر رسولاً جديدًا.
يمكن القول إن فكر الشيخ بن عليوة يتسم بتيارين رئيسيين: الأول: فلسفة الحركة والتطور, فهو يرى أن كل شيء يتطور، حتى العقائد، وأن هناك تبادلاً حيوياً بين الخالق والمخلوق. الثاني: فلسفة الوحدة, حيث يؤمن بأن كل شيء ينبع من مبدأ أساسي واحد، وأن جميع المعتقدات، مهما بدت متناقضة، يمكن التوفيق بينها وهي صحيحة بنفس القدر. إن تعاليم بن عليوة هي منهج أكثر منها نظامًا فلسفيًا, بل إنها تتجاوز كونها منهجًا، فهي بمثابة تمرين روحي يعتمد على الحدس، يلامس الحقيقة من خلال إشراقات مفاجئة، لا من خلال البحث المضني.
إن هذه العقيدة المتحركة والمتعددة، التي تجمع بين مواد فكرية متباينة، قد تأثرت بلا شك بمصادر مختلفة. فمثلا التأثيرات الإسكندرانية, مثل فلسفة الفيض عند "أفلوطين"، ووحدة الوجود غير المعلنة ولكن المؤكدة، وإمكانية الوصول إلى الله عن طريق النشوة الروحية. التأثيرات السورية-الإيرانية: مثل فكرة التطور النبوي لدى الإمامية والأحمدية، وأفكار "الحلاج" التي تعود للظهور، ومذهب "البابية" الذي يؤمن بتطور العقيدة. التأثيرات من ابن رشد وابن طفيل, مثل أطروحة المستويات الحسية التي تتوافق مع فئات العقول المختلفة. التأثيرات الغربية, حيث نجد أصداء، أو ربما إشارات مسبقة، لبعض أفكار "برجسون"، وتسلل أفكار من الحداثة المسيحية، والنقد القاسي للمعرفة العقلانية. باختصار، كانت أفكار الشيخ بن عليوة عبارة عن مزيج من مذاهب غالبًا ما تكون متناقضة، لكنه كان يصهرها في داخله يوميًا ليجعل منها وحدة متقدة.
وهذا يعني، في رأينا، أن أصالة الشيخ بن عليوة هي أصالة ظاهرية أكثر منها حقيقية. فقد تمثلت بشكل أساسي في التوفيق بين المتناقضات لتكوين فلسفة متماسكة. لذلك، لا ينبغي أن نمنحه، كما فعل البعض، لقب العبقرية الباطنية. ولكن، من يمكن أن ينكر حساسيته الشديدة للحقيقة، ونقاء تأملاته؟ ومن يرفض له شغفه بالبحث، وميله للتأمل الفكري، وبراعته الفكرية التي كانت أحيانًا مفرطة في دقتها؟ لم يكن نمط ذكائه أحادي الاتجاه، بل كان متعددًا، متقلبًا، ومتعرجًا، مليئًا باللمحات الحادة والبراقة. وستبقى بصمته عميقة في الوعي الديني الجزائري. وحتى لو لم يكن بن عليوة مبتكرًا لأفكار جديدة، فإنه قد أضاف مساهمته المتواضعة في الجدال القائم منذ قرون بين أرسطو وأفلوطين.
ترجمة حصرية ولأول مرة إلى العربية (درويش العلاوي) أشأع - أحباب الشيخ أحمد العلاوي. 2025.
تعليقات
إرسال تعليق