أوغسطين بيرك - صوفي حداثي"عصري": الشيخ بن عليوة, ج1

التعريف بالنص وبالمؤلف: أوغسطين بيرك (وهو والد الكاتب والاختصاصي بالعالم الإسلامي جاك بيرك) كان المدير الأساسي للبلديات المشتركة, وأمين صندوق الجمعية التاريخية الجزائرية. كان أوغسطين برق وبدون شك ذو ثقافة عالية وكتاباته تثبت ذلك بوضوح. المقال الطويل الذي نشره في "المجلة الإفريقية" سنة 1936م تحت عنوان: "صوفي حداثي (أو عصري): الشيخ بن عليوة" يصف فيه بطريقة حية وكاملة التجربة التي عاشها مع الشيخ العلاوي من خلال لقاءاته العديدة معه على مدى سنوات, وبدافع القيمة النفيسة لهذا النص قررنا ترجمته بالكامل. وعلى الرغم من أن هذه الشهادة تحتوي في بعض الأحيان على معلومات غير دقيقة واستنتاجات خاطئة, وهذا ليس بسبب سوء نية المؤلف, ولكن لكون "أوغسطين بيرك" والأشخاص من فئته رأوا في الشيخ العلاوي رجلا ذو معرفة واسعة وبلاغة وبيان نادرين, وعقلا بديهيا وخصبا في نفس الوقت لا يعرف الكلل. كلهم أعجبوا به واهتابوا منه بسبب تأثيره الكبير على كل من اقترب منه بما في ذلك هم أنفسهم أيضا. لذلك ننوه القارئ على بعض المغالطات في النص التالي ونعول على ذكاءه لتأويل ما يقصده المؤلف عند الضرورة, ويفترض على القارئ أن يكون حاويا على معرفة مسبقة بالإسلام بما فيه علمه الظاهر والباطن. ومن خلال أسرار الكلام سيتعرف على المشرب ومصدره. 

لقد رخصنا لأنفسنا بإضافة بعض المعلومات بين قوسين وبعض الملاحظات التي تشير فقط إلى الأخطاء الفادحة للمؤلف وحذف بعض الكلمات الغير صحيحة لتجنب المغالطات واستبدال كلمات أخرى غير لائقة (درويش العلاوي).

المقدمة

يمكن تلخيص سيرة الشيخ بن عليوة (أحمد بن مصطفى) في بضع كلمات, لن تشكل أبدًا قصة سيرته سوى قصة أفكاره.

ولد الشيخ بن عليوة في مستغانم عام 1872م (والأصح هو 1874م) من عائلة بسيطة ماديا. بدأ بالعمل مبكرا, عمل أولا في إصلاح الأحدية "إسكافيًا" ثم انتقل إلى التجارة "بقالًا", أفلس حوالي عام 1908م, ثم أعاد الكرة (عام 1909م) في فتح محل لبيع الجلود (مع ابن عمته وصديقه بن سليمان بن عودة), وحقق أخيرًا بعض الأرباح. في تلك الأثناء كان (مريدا) يتابع دروس دينية تحت إشراف الشيخ البوزيدي من الطريقة الدرقاوية, وهو عالم مشهور حيث كان الشيخ بن عليوة تلميذه المفضل. 

عندما توفي الشيخ البوزيدي عام 1909م سافر الشيخ بن عليوة إلى المشرق (هنا وقع المؤلف في خطأ فادح لا دليل لديه سوى تخمينه الشخصي حين صرح أن الشيخ كانت غايته من السفر طلب المعرفة عند حكماء السند والهند وبلاد فارس واستغرق سفره سنوات).

عند عودته, استقل عن الدرقاوية وأسس طريقة تحمل اسمه, كان نجاحه باهرًا وسريعًا حيث تميز بتأسيس زاويتين مهمتين في مستغانم والجزائر العاصمة, وإدارة جريدته الأسبوعية باللغة العربية "البلاغ الجزائري".

كان محبوبا بكيفية متشددة من طرف أتباعه. تعرض لهجوم عنيف من طرف خصومه الوهابيين (الإصلاحيين) وحتى من بعض شيوخ الزوايا (التبركية). كان يُلقن عقيدة مربكة (للبعض) أُعْتُبِرَتْ بالنسبة للكثير (من الأوربيين) إنجيلًا حديثًا, حيث كان لديه تلامذة أوروبيين زيادة على العدد الكبير من المنتسبين الجزائريين أقل ثقافة بالنسبة للأوروبيين. قام بدعوته ببلاغة نادرة ومعرفة واسعة, تلك الدعوة التي لم تكل أبدا وكانت مثمرة لدرجة كبيرة, كان مفعولها كالشحنة الكهربائية حيث في غضون أيام قليلة كانت تستولي على قلوب سكان قرى بأكملها. 

لكنه انتهى به المطاف إلى أن أصابه الإنهاك بموجب نشر هذه الرسالة بالقلم والكلمة, والضعف البدني بدافع الزهد المتواصل والحرمان الشديد والمقصود. توفي الشيخ بن عليوة في مستغانم في 14 تموز / يوليو 1934م. ما زلنا إلى الآن مندهشين من نجاح دعوته.

ومع ذلك, فإن (أتباع) الطريقة الدرقاوية التي انتسب إليها والذين عارضوه, كانت منظمة بقوة في الغرب الجزائري. هناك فرع في أولاد المبخوت بالمشرية, وفرع في مستغانم, وزاوية بمعسكر, وكذلك بأولاد لكرد بتيارت, وأولاد بن إبراهيم بتاخمرت اٍحدى بلديات تيارت, وزاوية تيرسين ولاية سعيدة. كما توجد فروع سنوسية تابعة للشيخ بن تكوك في نفس الحي (تجديت) بمستغانم. 

رغم المعارضات والهجمات التي تعرضت لها الطريقة الجديدة فإن قوتها الدافعة كانت كبيرة لدرجة أنها جنت انتصارات هائلة ابتداءً من عام 1920م. 

كان الشيخ بن عليوة قبل عام 1914م مجهولا على نطاق واسع (ما عدا بلدته والمناطق التي بها زواياه) حتى ظهر نجمه بالآفاق فجأة بعد الحرب العالمية الأولى ليصبح في غضون بضعة أشهر أحد أعظم الشيوخ الجزائريين. هذا النجاح لم يكن أساسا بسبب تعاليمه بقدر ما كان يشع من هيبته الشخصية.

كان الشيخ بن عليوة ضعيف المظهر, ‏كان ينبثق منه إشعاع استثنائي وجاذبية لا تقاوم. لنظرته الذكية والمستنيرة جاذبية فريدة ‏‏تكشف عن مهارة طبيب القلوب والقوة الخالصة الوثيقة التي يتمتع بها. إنه لطيف جدا ومهذب ومتواضع, جميع أحواله تشير إلى أنه ميال للتسامح, إنه حقق بشكل يثير الإعجاب مضمون الولي الصالح العارف بالله. نشعر من جانبه إرادة صلبة وحدَّة لطيفة التي في لحظات قليلة ينهي من خلالها موضوع حواره.

يتصادف أن يكون الرجل الديني المغاربي واقعيًا ويفكر في نفس الوقت تفكيرا عقائديًا, متشككًا ويفكر كذلك تفكيرا عقائديًا, إيجابيًا وزاهدا. فمن خلال هذه الظاهرة "البُوفَارِيَّة" وهي الهُرُوب مِن الْوَاقِع, والتي هي سمة تخص بالتحديد بعض أولياء الله في الإسلام, ولكن هذا الأمر لم يكن ينطبق على الشيخ بن عليوة.

لا أحد يستطيع التشكيك في صدقه, في أمانته الروحية. كان إيمانه فياضا ومتواصلا مع الغير في ألحان متدفقة. لكنه احتفظ في نفس الوقت بإحساس قوي بالعمل الفعلي واستخدامه الفوري. كان ينتمي إلى هذه الفئة من الأرواح المتكاثرة في شمال إفريقيا والتي يمكن لها أن تمر ‏دون مرحلة وسيطة من الحلم إلى التصرف, من استحالة التقدير إلى الحياة, من التحرك العظيم للأفكار إلى ‏النظر المجهري في سياسة فرنسا نحو ‏سكان البلاد الأصليين. 

هذه النفسية الخاصة بشيوخ الزوايا تربك تحاليلنا. إنها تندفع من هذا المنطق الداخلي الذي يربط القدر بالتعويل على الإرادة الشخصية, والمتعة الشهوانية الشرقية بالأخلاق العالية للإمام الغزالي.

عرفت الشيخ بن عليوة من عام 1921م إلى عام 1934م, واكبت تقدمه البطيء في السن. كان فضوله الفكري ينضج كل يوم إلى أن تلفظ أنفاسه الأخيرة, كان أحد المتحمسين لتقصي ‏‏الغيبيات. جاب كل المسائل وقليلا منها التي لم يتطرق لمعالجتها, ولم يكن هناك أي موضوع من الفلسفيات الذي لم يستخلص منه جواهره. لكن حماسه الروحي وتقشفه الصارم اختصرا بالتأكيد أيام حياته. في نهاية عمره, لم يكن سوى صورة مجردة توحي بالكبرياء, منغلق ورافض للحياة.

رسم لنا أحد المعجبين به (ومن أتباعه أيضا) السيد فريتجوف شوان (عيسى نور الدين أحمد), صورة تعبيرية لا تُنسى:

" كان عليه جلباب بني داكن وعلى رأسه عمامة بيضاء, مع لحية فضية, ونظرة مطَّلعة, وأيادي ‏طويلة كأنها ثقلت بفعل تدفق بركاته, كان ينبعث منه شيء من البيئة العتيقة والصافية من زمن سيدنا إبراهيم الخليل (عليه السلام) ... كان صوته وديع للغاية, كأنه شبه محجوب, ولا يتكلم إلا قليلا وفي جمل قصيرة... بصوت كأنه زجاج متصدع, يلقي ‏‏كلماته, قطرة, قطرة. وكان لصوته نبرة استسلام وزهد, وبدا لي أن الأفكار التي ينقلها لنا صوته كأنها تجليات رقيقة وشفافة جدا, ذات ذكاء واعي لدرجة أنه لا يمكن لها أن تتشتت في تيار التقييد... عيناه كأنهما ‏‏مصباحين مطمورين, لا يبدو أنهما يشاهدان شيئا دون الانقطاع لشيء ما, ولكن الكل بالنسبة لهما حقيقة واحدة متمثلة فيما لا نهاية عبر الأشياء, أو ربما لا شيء في مظهر الأشياء. نظرته منتصبة, صعبة شيئا ما بسبب جموده ‏المبهم ولكنها مليئة بالشفقة... وغالبا ما كانت عيناه تتسع فجأة كأنه أصابتهما دهشة أو جذبهما مشهد ‏رائع. كأن إيقاع الأناشيد والاهتزازات وشعائر العبادة لا تفارق باطنه الذي يتأرجح دون توقف. في بعض الأحيان كان يهز رأسه هزاً باطنيا ‏بينما قلبه مستغرق في الأسرار المطلقة للأسماء ‏الإلهية أثناء الذكر. يجتابنا انطباع بحالة وهمية من ناحيته حين يبدو بعيدا عنا, منغلقا, غير‏ مدرَك في كل بساطته المجردة, كان محاطا بالتبجيل الذي يجب نحو الأولياء الصالحين, لأمير القبيلة, للشيخ الكهل, وللمحتضر". (انتهى).

هكذا كان الرجل. ها هي عقيدته...

العلوم العقلانية

تردد الشيخ بن عليوة حول هذه التساؤل: "هل نعرف الله بالعقل أم بالقلب؟". باختصار, أرسطو أم أفلاطون, ديكارت أم باسكال , تاين أم برغسون؟ علامة استفهام على عتبة باب كل مدرسة دينية... (هنا تناول المؤلف موضوع الفلسفة والفلاسفة في الإسلام فيما يخص مسألة: هل معرفة الله تتم بالعقل أم بالقلب...).

لم نزعم, من خلال هذه الاقتباسات القليلة, أن نعطي صورة ولو مختصرة عن الصراع الذي يواجه الإسلام الإيماني بالإسلام العقلاني. ولكن فقط لتحديد مفترق الطرق حيث كان للشيخ بن عليوة وقفة, مثل جميع المفكرين الدينيين. يبدو أنه بعد تأمل قصير, اختار عمدًا المسار الصعب الذي يحيد عن المسار المستوي, المنطقي والسهل.

يقول الشيخ بن عليوة ناقلا عن شيخه سيدي حمو الشيخ البوزيدي:

العالم اللامتناهي أو عالم الإطلاق (بالمعنى الصوفي) الذي نتخيله خارجا عنا, فهو عكس ذلك, إنه عالم خارجي وفي نفس الوقت هو موجود بذاتنا. في الحقيقة لا يوجد سوى عالم واحد, هو هذا. ما نعتبره العالم المحسوس (عالم الشهود) العالم المحدود أو الزمني, هو مجرد مجموعة من الحجب التي تخفي العالم الحقيقي. هذه الحجب هي حواسنا, أعيننا حجاب عن البصر الحقيقي, وآذاننا حجاب عن السمع الحقيقي وكذلك حجب الحواس الأخرى. لإدراك وجود العالم الحقيقي, فمن الضروري إزالة هذه الحجب التي هي الحواس…. فماذا يبقي من الإنسان إذا؟ يبقى شعاع طفيف يبدو له على أنه صفاء وجدانه…. هناك تواصل بين هذا الشعاع والنور العظيم لعالم الإطلاق …. لما يتم إدراك ذلك, يمكن لنا (من خلال الذكر والفكر) أن نسبح بطريقة ما ونضمحل في عالم الإطلاق ونندمج معه, لدرجة أن الإنسان سيدرك أن لا وجود سوى لعالم الإطلاق فقط, وأنه "أي الإنسان المتبصر" موجود فقط على صورة حجاب. بمجرد أن تتحقق هذه الحالة, كل أنوار عالم الإطلاق يمكن لها إذا أن تخترق روح الصوفي وتجعله يشاهد التدبير الإلهي ..., فيحق له أن يصيح: ... الله! أما العقل الخالص فهو غير كافٍ لمعرفة الألوهية, فمن الضروري الحصول على إشراق البصيرة, أي توسيع الوعي, ليتيح الإدراك بالقلب ما اكتسبه العقل.

بالنسبة للشيخ بن عليوة, ومعظم العارفين, يجب الاجتهاد لاتصال الفكر مع الحق الذي لا شريك له. عقيدة الشيخ بن عليوة صعبة, لكنها تكشف للمريد الجوهر الإلهي بطريقة كاملة. سيصل بعد ذلك إلى درجة المعرفة الصوفية والمعنى واليقين, كما تهدف إلى فتح بصيرة المريد والتي ستسمح له باكتشاف الغيبيات, وتغرق عينيه بماء المعرفة الإلهية, حتى لا يرى في الوجود إلا الله, ولا وجود له إلا سواه. هذا الاستيعاب, الذي لا يسمح به إلا فن التصوف, والذي هو بالتالي فن خاص, يتضمن عدة محطات التي يجب اجتيازها. السكرة الروحية للشيخ بن عليوة هي الوصل المتكامل للروح مع الحق.

جاء في ديوانه ضمن قصيدته "يا من تُريد تذري فنّي":

والأصل منّي روحاني *** كنتُ قبلَ العبوديّة

ثم عُدت لأوطاني *** كما كنتُ في حرِّيّة.

فتبيت الروح حينئذ في شهود مؤبد, بعد الفناء التام عن الحواس, حتى يصل المتأمل إلى درجة يتجاوز بها نفسه, فيقول الشيخ بن عليوة ضمن قصيدته "مُريداً بادِر بِقَلبٍ حاضِر":

قلبي يا قلبي, افهم عن ربِّي *** احفظ لي حبي, هوَ, هوَ اللَه

قلبي لا تغفل, عظِّم وبجل *** إيّاكَ تعجَل, تفشي سرّ اللَه.

إن هذا المستوى الروحي للإنسان بالنسبة إلى المعرفة الإلهية, لا يصل إليه إلا عدد قليل من المنتسبين. رأى الشيخ بن عليوة أنه أحداً منهم. كان الأب الروحي الحاضن للأرواح, المستنير بنور الله, ووجود الشيخ بن عليوة في زماننا هذا نعمة من الله….

يقول الشيخ بن عليوة أنه كان بإمكانه الاستغناء عن مهمة الإرشاد على الله والتربية والسلوك كما هي عادة شيوخ السلسلة الشاذلية, إلا أن النبي محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم أمره بشديد اللهجة بالإرشاد على الله وكلفه بمهمته. إذا فإن النبي محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أضفى الشرعية على سلطته, وليس سلسلة النسبة الشاذلية فقط.

ووصل إلى مرتبة الغوث, التي هي أقصى المراتب في هرم الأولياء. كان يقول "إنه عظيم الصوفية في عصره", مستدلا على حديث "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها", حيث أعلن الشيخ بن عليوة أنه إمام زمانه بعد الشيخ الدرقاوي ضمن قصيدته "مُريداً بادِر بِقَلبٍ حاضِر":

صرَّح يا راوي, باسم العلاوي *** بعد الدرقاوي *** خلَّفه الله.

وفي قصيدته اللامية يقول:

ولو نظر الإمام نور جماله *** لسجد إليه بدلا عن القبلة.

في إحدى الليالي كان الشيخ بن عليوة في سكرة من سكراته الروحية, فسمعه أحد مريديه يردد:

أقدم يا مريد التحقيق *** فأنا بواب العرفان

ومرة أخرى:

أنا الحق الحقيقي *** تجلى في صورة إنسان.

كان الشيخ بن عليوة من أحد الأفراد الذين يتمتعون بمشاعر غيبية نادرة. كان ينتقل بقفزة واحدة إلى قمم سامية في ميدان علم الوجود الكوني. كان إبداعه الكلامي استثنائي للغاية, حيث كان يجرد المعنى, أو الإشارات الصعبة, ويجعلها في ثوب واضح يبدد به عجز الأفكار عن الإدراك.

كان الشيخ بن عليوة يقول في مجالسه الخاصة: "الله "مثل" نور صاف, وشعاع نوره ينير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشعاعه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنارني بدوري, وكلما نزل ذلك الشعاع على الإنسان, على الحيوانات والنباتات والمعادن, يصير ثقيلًا بسبب كثافة المادة. ولكي نجد مجددا في أنفسنا جوهر ذلك الشعاع, فمن الضروري إذابة تلك المادة بنار الحب المشتعلة. إن البخار والماء والجليد مادة واحدة, تعطي للخالق وتجلياته في الكون صورة قريبة بما فيه الكفاية".

لقد أتيحت لنا الفرصة لعرض للشيخ بن عليوة مختلف منظومات فلسفية للمؤلفين الغربيين, ففهمها تمامًا. لكنه كان يتذوق بالأخص كتابات "هنري برغسون" في علوم ما وراء الطبيعة التي تتناول علم الغيبيات, والذي تأسف كثيرا على عدم قدرته في استيعاب استرسال الفيلسوف في منطقه الفلسفي. بالمقابل, كان يستوعبه بدءًا من عرضه الكلامي, كان يدرك أدق التفاصيل ويترجمها على الفور من خلال صورة مبهرة. وهكذا علق على التمييز المشهور بين ميزة الذكاء والحدس الغريزي الذي وحده قادر على إدراك الحياة قائلا: "محراث الفلاح حلَّ مكان قلم الطالب". أسعده كثيرا التفسير الذي قدمه "هنري برغسون" حول سفسطة الإيليين, حيث كان يستخرج إشارات بارعة من المفارقة الشهيرة لـ "سهم زينون".

أعمال الشيخ بن عليوة المكتوبة لا تأتي بأي تباين جوهري في العدالة الإلهية في الإسلام. حيث قال: "أن الواجب الديني يتمثل بالنسبة لك, أيها البالغ, في الإيمان الصادق بوجود الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقضاء والقدر". فبينما أن معظم العلماء المسلمين الذين فهموا من الدين كل ما هو ظاهر فقط, لعدم إدراكهم كل ما هو باطن, وصل الشيخ بن عليوة بصعوبة إلى إدراك المفهوم الأرسطي للكائن الأسمى (الذات المقدسة), الصافي, المطلق, المنزه عن كل تجسيم معنوي أو مادي, فهو مختص بالتنزيه عن كل صفة. يقول الشيخ بن عليوة: "إن الله منزه تنزيها مطلقا, له الكمال المطلق الأزلي الذي لا يتطرق إليه النقص بأي وجه من الوجوه, لم يلد ولم يولد, بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص, لا يشبهه شيء من المخلوقات في شيء من الصفات جملة وتفصيلا, ليس كمثله شيء, وهو السميع البصير".

امتنع الشيخ بن عليوة عن طرح المسائل العزيزة على الفلاسفة العرب من حيث المكنون والجوهر والسببية. لقد رأى أن هناك تلاعبًا طفوليًا بمنطق العقل, وكان يبتسم لتلك الحيل الفلسفية. ولإظهار حماقة ذلك, ردد ذات يوم قوله الذي نقلناه: "تلك محاريث تريد أن تحرث السماء".

وإذا استخف بالسفسطة المعتادة لكلام الفلاسفة المسلمين, فقد كان مهتمًا بشدة بتفكيرنا الفلسفي الغربي. لقد ذكرنا مسبقا تذوقه لـكتابات "هنري برغسون", قال إنه يتصور مسبقا الصياغة الأساسية قبل أن يعلمها. 

في الواقع, إن ملاحظاته تثرى بذكريات غريبة. لقد فهم جيدًا التفرع للتطور الخَلقي, "الذي أراده الله تعالى إذا لم يكن (ذاك التفرع) هو الله نفسه", بفطرة مسبوكة على الحياة وذكاء مطبق على المادة, متكافئان في الجوهر مع المادة, ولكنهما بالتالي غير متناسبان بالنسبة لحقيقة الذات المقدسة. 

أن يجد العقل راحة في الماديات فهذا أمر بديهي, لكن الغيبيات فهي مغلقة أمامه ولا تفتح فقط إلا على الحدس الفطري. ومن هنا, يتابع الشيخ في حديثه, الخطأ الكبير المتمثل في نقل الأساليب الهندسية للعقل إلى ما يمكن فقط للقلب اكتشافه بإذن الله. على الرغم من إعجابه الشديد بالعلوم العقائدية حيث لم يكن لديه أي شك في صحتها من عدمه, إلا أنه اعتبر أن الفكرة العقلانية للإله ستظل دائمًا منحازة إلى التجسيم. من هو على حق, الزهرة التي تتصور الله كعطر, أم أرسطو الذي يتصور أن الإله يتعقل ويفكر ولكنه لا يعقل إلا ذاته إلى الأبد؟  أرسطو والزهرة يتبعان نفس المنهج: أحدهما يؤله أفكاره والآخر رائحته. وخلص الشيخ (بن عليوة) إلى أن كلاهما على حق, لأن الله هو كل شيء, وكل جزء من الخليقة لا تفتح له سوى زاوية ضيقة للرؤية.

هناك تأثير آخر وحديث على الشيخ بن عليوة, وهي: "نظرية أو فرضية "برغسون" التي تجعل من علم الكلام سببا للضغط والتجفيف, وجمودا للشعور. سيولة الحياة تتجمد بالكلمات. يتابع الشيخ بن عليوة قائلا: هناك 100 إسم من أسماء الله, لا نعرف منهم سوى 99 اسم فقط, ولو عرفنا الاسم 100, سينهار العالم على الفور. لأن هذه الكلمة الفريدة التي لم تُلفظ قط, لم تجمد بعد الشعور الذي يوصل إلى الله. وهذا الشعور, إذا تم كشفه فجأة, فسينفجر بغتة, ويفجر الكون". نجد هنا التحويل الإسلامي لمفهوم غربي.

يبدو أن الشيخ بن عليوة قد فكر في المسألة التالية لفترة طويلة: تم تفكيك أفكار المكان والزمان في وقت مبكر وتشريحها بعناية, أولاً عن طريق العلم الماورائي اليوناني, ثم من خلال علم النفس الذي له معكوسه على علم النفس الماورائي. ولا شك أن الفلسفة الإسلامية لم تتجاهل هذا الأمر, ولكن مرة أخرى مع وجود أخطاء غريبة في المفردات, استخدمت مغالطات عديمة الفائدة للتوفيق بين المفهوم الأرسطي للزمن الأبدي بدون بداية, والمبدأ الإسلامي للزمن الذي خلقه الله. 

بقي الشيخ بن عليوة, بالنسبة لمفهومه عن الزمان والمكان, في التقليد الفلسفي. اعترف بأن الوقت لا يمكن إلا أن يكون ذاتيًا. وهكذا حافظ على نفسه في الثلم الذي فتحه الغزالي وابن سينا. لكنه تجاوزها في بعض الأحيان. لقد فهم تمامًا, دون أن يجلب معها التصاقًا نهائيًا, نظرية "كانت" للمقولات. لم يكن هنا اختراعه الفلسفي مخطئًا أبدًا, كما في أي مكان آخر. 

أوضح لنا ذات يوم أن الله يدرك دون أي شك التزامن ما نراه نحن في التعاقب. لكن على الرغم من ذوقه "لبرغسون", لم يبدو لنا أنه قد أدرك تمامًا نظام المدة الزمنية "للأنا", للوقت المكاني والهندسي الذي بقي, كما نعلم أنه أحد أكثر المبادئ الأصلية التي كتبها "برغسون".

الأعمال المكتوبة للشيخ بن عليوة لا تحمل أي أثر لتوغلاته في الفلسفة الحديثة, إما اعتبرها غير مناسبة أو خطيرة, أو رأى فيها نوعًا من التملص على طريقة "رينان". كان يتقاسم أفكاره الفلسفية ويتناولها خلال المحادثات الشخصية مع أصدقائه الأوروبيين فقط. كان يظهر حماسه لاجتهادات العقل العويصة, حيث كان كلامه الفلسفي الأفلاطوني أنيق ورائع وكانت مخيلته مندفعة ومتألقة في غاية التفاوت, يحل بضربة من جناح في مناهج صعبة. ‏ومن شدة تحمسه للأفكار كان يفرض ذلك عليه أن يهدأ من حماسه لها ويوفق ما بينها ثم يجعلها في تركيب فسيح المعاني تشير إلى المحبة الإلهية.

العمل العقائدي والديني 

1. العقيدة والتطور

كيف استطاع الشيخ بن عليوة أن يوفق بين إيمانه بوحدة الوجود وبين نصوص القرآن والأحاديث؟ كيف تمكن, من كونه من علماء السنة أن يوفق بين ذلك؟

وحدة الوجود؟ كان دائما ينكر ذلك. ولكن, كما لاحظنا, هناك نوعان من نظرية وحدة الوجود. أحدها ذو معنى سطحي, ظاهر المعنى, بالكلمات أكثر من أن تكون عقيدة, والمعنى الآخر باللاوعي, متفشي, كل ذلك في احتمالات دون أن تتجلى بشكل صريح, والتي تحدد مسارات العقل وتضفي النظريات عليه. ونظرية الشيخ بن عليوة من ضمن النوعية الثانية. 

لقد نسق بشكل مثالي بين الإله الجوهري والانبثاقي مع الإله بالمفهوم الإسلامي. كانت تأويلاته مرنة بقدر ما كانت رشيقة. اعترف في مجلس محصور من الحاضرين "أن معاني القرآن لها عدة تأويلات". كان يشنأ من التفسير الأدبي الخانع للعلماء الجزائريين. وكان يجد في الكتب المقدسة تسلسلاً كاملاً للمعنى. تجاوز في تأويلاته الداهية والمتموجة والمغامرة أحيانًا, عقبة الكلمة تمامًا. كانت (تأويلاته) تستخرج الروح (من الكلمة). 

اعترف بأن "الحقائق السامية هي هبة إلهية للخاصة من الناس, وأما بالنسبة للعامة, فمن الضروري عدم إذاعتها إلا تلميحا على أساس عقولهم وأخلاقهم". وهكذا انضم إلى فئة ابن رشد وابن طفيل والغزالي... .

تبنى الشيخ بن عليوة هذه العقيدة. كان يؤمن بتعدد التأويلات, من التأويل الحرفي إلى المجازي. كان يعتقد أن معاني النص موضوعة في طبقات, الواحدة فوق الأخرى, وتلك التي بالطابق السفلي, إذا جاز التعبير, موقوفة على فهم العوام من الجمهور. لقد استمتع بشكل خاص لكلمات "رينان" التي نقلناها إليه: "لقد أعطينا الله قالبا غنيًا من المرادفات ... الله, الروح... والكثير من الكلمات التي يمكن للإنسان تفسيرها بمعاني راقية". 

قال الشيخ بن عليوة: "إن ما أؤمن به كمسلم, أنقله كمفكر إلى الفكرة, وبصفتي صوفيًا عارفا بالله, أراه في انسجام الأجسام الكروية. ومعتقداتي الثلاثة, المتناقضة كما تبدو, فهي واحدة (في المعنى)". 

كان يكن إعجابا شديدا لرواية ابن طفيل (حي بن يقظان), حيث كان يردد منها هذه الجمل: "فانفتح بصر قلبه وانقدحت نار خاطره وتطابق عنده المعقول والمنقول, وقربت عليه طرق التأويل, ولم يبق عليه مشكل في الشرع إلا تبين له, ولا مغلق إلا انفتح, ولا غامض إلا اتضح, وصار من أولى الألباب". وكذلك: " ولم نخل مع ذلك ما أودعناه هذه الأوراق اليسيرة من الأسرار عن حجاب رقيق وستر لطيف ينتهك سريعاً لمن هو أهله، ويتكاثف لمن لا يستحق تجاوزه حتى لا يتعداه".

بالنسبة إلى الشيخ بن عليوة, إن للكتب المقدسة تأويلات متعددة, حيث تختلف التفسيرات من جيل إلى آخر, وتتطور العقائد كتطور الإنسان, بينما تظل مطابقة لجوهرها الأزلي. كان يردد كلام سيد علي محمد الشيرازي المشهور بـ "الباب": "لقد تجاوزت عالم الكلام منذ زمن طويل". إننا كما نرى, في حداثة عصرية كاملة. إن التصوف يشمئز من أن ينغلق على مفاهيم جامدة, بل يضخمها بروحه المتوقدة, ويفيض بها وفي النهاية يبددها.

إن الإيمان المعنوي للشيخ بن عليوة, وزهده المحترق, يسير جنبًا إلى جنب مع ما سوف نطلق عليه "النبوة التطورية", الكمال الذاتي للوحي الإلهي ... إن الأنبياء, الذين هم أدوات الوحي المتوالية, يكمن فيهم الروح والعقل, حيث خلق الله المادة الأولى والكون ... وكل منهم أتى بجزء من الحقيقة إلى أن انتهت المهمة بختم الرسالة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. (تم حذف مغالطة للكاتب حيث نفى ختم الرسالة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وذلك بتخمين مفاده أن هناك من يمكن تجاوزه معرفة, وذلك لتأثير الشيخ بن عليوة عليه ولجهله لحقيقة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم). 

الشيخ بن عليوة, الذي لم يخف إعجابه بسيد علي محمد الشيرازي المشهور بـ "الباب" وتلاميذه. اعتقد الشيخ نفسه, بعد "الباب" والدرقاوي, أنه (ممثل) آخر رسالة نبوية. ولكن مرة أخرى, بينما كان يفكر في كون أفكاره عالمية, كان يفكر في نفس الوقت بمنطق إسلامي فحسب. مع تقدمه في السن, شدد على أطروحته عن نظام من المعتقدات المتراكبة, بينما يتداخل بعضها البعض, ابتداءً من التجسيم المكثف إلى الصور الخشنة ثم إلى المثالية الأكثر صفاء.

الدعوة الإسلامية

كان الشيخ بن عليوة أحد أقوى المدافعين عن المذهب السني, حيث أبدى حماسًا شديدا لتطهير الإسلام الجزائري من الجراثيم الطفيلية التي أصابته تدريجياً عبر جريدته الأسبوعية "البلاغ الجزائري", والذي كان يعد مضمونها بدقة ويقوم بتصحيح ومراجعة كل مقال ينشر. لم يتوقف الشيخ عن محاربة الخرافات التي كان يمارسها بعض شيوخ الزوايا التبركية وخاصة أنهم كانوا يذيعون وسط الأغلبية الأمية, جراثيم الشعوذة والخرافات وبعض الممارسات التي غطت شيئا فشيئا الإيمان الحقيقي بسلوكيات الجاهلية, مثل عبادة القبور. ثم إن اللغة العربية كانت مهملة وفي آخر قائمة انشغالات الهيئة التربوية (للاستعمار الفرنسي). ‏فكان الشيخ العلاوي من السباقين الذين نادوا لإدراجها وتجديدها. وكثيرا ما كان الشيخ ينادي بالعودة إلى إسلام الصحابة, إلى إسلام قريب العهد من النبوة, الذي لم يتجمد بعد من أعمال الفقهاء الذين أتوا من بعد.

بصرامته الفريدة, وإحساسه الشديد بالدفاع (عن الدين) وبفضل قريحته الاستثنائية في المجادلة, انتفض الشيخ بن عليوة ضد ضعف الإيمان وفتور المسلمين الجزائريين. يمكن للمرء أن يقرأ عبر مقالاته مختارات إرشادية شديدة اللهجة:

"وأنت أيها المؤمن, نصحي لك أن تحافظ على إيمانك وأن تكابد في دعوتك إلى الله... ولا يغرنك التمويهات العصرية, ولا يغرنك بالله الغرور... وإني لا أظنك تتنازل عن ذلك الحظ لرأي السفهاء من الناس الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا, فنصيحتي لك أن تصبر على إيمانك وأن تدافع عن دينك بكل ما في وسعك ولا تولي دبرك للظالمين منهزما...." (ترجم المؤلف النص ترجمة خاطئة حيث جاء فيه: من الأفضل لك أيها المؤمن أن تموت في سبيل الإيمان من أن تعيش في جهل تام).

"الإسلام يشكو لله شجوه, بكى شجو الإسلام من علمائه, فما اكترثوا لما رأوا من بكائه, فلو أن للإسلام لسانا وشفتين لرأيناه وسمعناه قائلا: رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين. يقول ذلك لعدة دواهي ألمت به ومصيبته في أبنائه أعظم, أولئك الذين أهانوه وأضاعوه بدون ما يعرفون أي شيء أضاعوا. أضاعوا عزهم وشرفهم, أضاعوا مجدهم وكرامتهم, أضاعوا دنياهم وآخرتهم"...

"إن حال المسلمين اليوم... آلوا بعد تفريطهم في التمسك بمبدأ العقيدة الشريف إلى تفرق مذل وجهالة مطبقة وضلال بعيد... بل هم فاقدو وسائل الاستعداد للاحتفاظ بالنزر الباقي لهم في شرف الدين والدنيا مع وفرة العوامل المناوئة لهم المحيطة بهم من كل مكان, تتربص بهم الدوائر وتتحين لهم الفرص إلى أن تسلبهم ما بقي لهم من حشاشة دنيا وشرف دين, لا قدر الله, إلا أن يتداركهم الله بلطفه وهو سبحانه المسؤول لكشف الكروب عمن صح التجائه إليه"...

"إن وجود الضعف الساري بين طبقة المرشدين... الأمر الذي كاد أن يربط الخاصة بالعموم, فضروب الغفلة مستحكمة في كل بحسابه"...

يا لها من احتجاجات ضد الغفلة المعاصرة من ناحية الدين!

كان الشيخ بن عليوة يدين بشدة المدنية العصرية التي تهمل الجانب الروحي, والتي تفتن شيئا فشيئا قلوب المسلمين, فكان يكشف ذاك الداء بعدم البصيرة والجهل, واللذان يمنعان الأنوار الإلهية عن القلب, والعناصر السلبية لهذه (المدنية العصرية) نعتها "بيجي" بـ "عوامل إزاحة الروحانية". 

إن هجمات الشيخ الشديدة لم تشمل الأهالي فقط, بل أيضًا العلماء قبل كل شيء. في الوقت الحاضر, يظهر الحكام المسلمون أكبر قدر من الغفلة في كل ما يتعلق بالدين, لذلك يمكننا القول إنهم يتسببون في ضرر للإسلام أكثر من الأجانب نتيجة لإهمالهم وتقصيرهم, فإن أي شخص يريد السخرية من الدين أو الإضرار به يمكنه فعل ذلك دون خشية.

إن هذا الفيلسوف (الشيخ بن عليوة) الذي رأيناه حريصًا على علم الغيبيات الجوهري, والذي فهم (كتابات) "الباب" (المعقدة) وحرم (على نفسه قراءة) الأدبيات السطحية, فإنه يهاجم التأثير السلبي الذي سببه تغريب العقول والأعراف. لا يعني ذلك أنه ينفي أفكاره عن التوليف الديني الواسع, لا أبدا, بل كانت أطروحته الرشدية (أي المطابقة لنظريات ابن رشد) دائمًا هي أن العقيدة الشعبية, والفكر الأسمى للفيلسوف وبداهة المنتسب, تعتبر كلها أشكال مراوغة للحقيقة, وأن إضعاف أحدها هو إضعاف الباقي (فالحقيقة مراوغة جداً لأنها تعرف أين يمكنها التخفي). لكنه في النفس الوقت عارض وضع القبعة على الرأس ولبس البنطلون, والعادات والفكر والحياة الأوروبية بصفة عامة, رغم أنه كان يشيد مرارا بالتقدم الأوروبي.

"واندفع شبابنا مع هذا التيار (الغربي) فظنوه الصواب وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى وصل هذا الشباب في أخلاقه إلى درجة الإسفاف المشينة".

إن الرثاء المتعدد الشيخ بن عليوة, أخذ إيقاعًا نبويًا, حارب بكل ما أوتي من قوة التأثير الغربي, ولكي يصل صوته للأهالي المسلمين, اتخذ أسلوبا نثريا مندفعا وجياشا, محتدما بالصور المتضاربة. كانت حملته ضد تجنيس السكان الأصليين, تحمل لهجة أدبية شديدة, حيث قال:

"إن التجنيس يمثل خطرا حقيقيا وخسارة أكيدة للهوية الإسلامية, لأنه يمس بالإيمان وقانون الأحوال الشخصية".

وأردف قائلا:

"أيها الشعب, حتى اليوم حافظت على وحدتك وجنسيتك الجزائرية وشخصيتك. لقد بقيت حتى يومنا هذا وفيا لدينك. إن تمسكك بالإسلام جعلك في مقدمة الدول الإسلامية. لقد ورثت الماضي المجيد, ماضي أسلافك الذين لم يخونوا أبدا العهد مع الله, لقد احترمت دائمًا هذه الأمانة المقدسة. هل يمكنك التضحية بماضيك, والبيع بالرخيص الكثير من المزايا أو السماح لحديثي النعمة ذوي المصالح فعل ذلك؟"...

"إنه لمن الغباء أن نعلن للعالم أجمع أننا نمثل كل الشعب الجزائري, وأن الشعب سيكون سعيدًا من أجل خدعة التجنس (بالجنسية الفرنسية) مضحيا بذلك جنسيته العربية البربرية, ومعتقداته, وماضيه, وكل ما يشكل شرفه. أيها الشعب, لقد قدمت لفرنسا دليلاً على إخلاصك, أنت تستحق الجزاء على ذلك, وستحصل عليه, ولكن ليس بسبب تجنيسك".

ما السبيل لمعالجة الثغرة في الفقه الإسلامي الجزائري؟ وضح الشيخ بن عليوة وبناءً على أساس عقائدي, أنه يجب إيجاد الوسيلة لإحياء الدين في الدين نفسه. يريد أن يعيد الإسلام إلى أصله الذي هو أصل كل حضارة غربية, والذي يتضمن كل الفلسفة الحديثة والأخلاق العالية والعدل والإحسان الاجتماعي. لا حاجة للمؤمن للانصياع لفلسفات الغرب, لقد وهب الإسلام ثروة لا تنضب, يبقى متعاليًا, أبديًا, صالحًا للغاية, ومن القرآن يأتي التجديد.

"إن أمة فرنسا لا تقل حاجة على غيرها إن لم نقل أن الحاجة بها أمس للاستطلاع على ما تتضمنه التعاليم الإسلامية, وذلك لأسباب أهمها كون نصف سكان مستعمراتها يدين بالإسلام خاضعا لتعاليمه. فكان عليها أن تضع فيه ثقتها بالقدر الذي تضعه في غيره من بقية أبنائها المخلصين, والضرورة تلزمها وإلا لعاش الجميع على غير اطمئنان لعدم تبادل الثقة بين المتعاشرين. وإن لم توجد ثقة في البعض من العنصر الفرنسي بمن شملتهم رعايتهم من المسلمين, فما هو السبب يا ترى؟ فإني ما أراه والله أعلم إلا عدم إطلاع هذا البعض عما تضمنته التعاليم الإسلامية أو كان يعتبر الإسلام كما يعتبره الجل من الغربيين من كونه عبارة عن مجتمع غوغاء, ديدنهم سفك الدماء".

"يجب على المسلمين الشعور بالأخوة الدينية فيما بينهم, ليكونوا أمة واحدة متحدة في الزمان وفي المكان. إن جلالة الملك (ابن سعود) نفسه الذي كانت الأمة الإسلامية تعلق عليه كبير أملها لم ينبس ولو ببنت شفة لتلك الدواهي كلها (لعدم تقديمه للمساعدة للطرابلسيين المضطهدين من قبل إيطاليا) وإذا فالأمة الإسلامية لم يبقى لها رجاء إلا في الله عزت آلاؤه"..

ونشر الشيخ بن عليوة خطبة شديدة اللهجة لإخوانه في الدين لدعوتهم إلى الاتحاد وحب بعضهم البعض (في حقيقة الأمر إن المقال المذكور كان تحت إمضاء محمد بن قدور المجاجي بعنوان لقوله تعالى: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) …

كان الشيخ بن عليوة, كما نلاحظ, أحد أبرز وأول العلماء السلفيين وقبل ما تم تسميته بالحركة الوهابية الجزائرية. لقد قام مسبقا بتعريف وتسطير مشروعه الإصلاحي, ولم ينفصل عن الجمعية الوهابية إلا في وقت لاحق, بعد اختلاف الرؤى التطبيقية مع بن باديس والطيب العقبي اللذان انتقداه على عناده وتعصبه وضعفه الجدلي (على حسبهم). كان يعتقد أنه من خلال ادعاءاتها السياسية فإنها تعرض قضية المسلمين في شمال إفريقيا للخطر. لذلك يمكن للمرء أن يتفاجأ في عمله برد فعل حيوي إلى حد ما. 

بصفته شيخ من شيوخ الزوايا, عاد للدفاع عن الزوايا التي هاجمها من قبل بسبب البدع التظاهرية, كان شيخا من الدرجة العليا يحارب الشيوخ الجزائريين, كان تفكيره آنذاك يصب في أمل أن يتطور المغرب العربي في الاتجاه الصحيح, وليس تحت الزخم الذي يريده علماء مجموعة بن باديس, هؤلاء يشنون الحرب على شيوخ الزوايا دون أن يدركوا أن تدمير المعتقدات الشعبية يروج لدعاية المبشرين المسيحيين..

معركته ضد العلماء الجزائريين والذين يهاجمونه دون رحمة, حيث كانوا يلقبونه بشيخ الحلول أو الشيخ الدرني, فكانت هجماتهم تزداد مرارة يومًا بعد يوم. فتخلى عن المناصب المتقدمة التي شغلها في البداية, واتخذ الإسلام السني منهجا مدافعا عن المذهب المالكي المتجذر في الشعب الجزائري, فصار حينئذ أسلوبه الكتابي شديد اللهجة, قاسياً, طافحا بالتصويب نحو هؤلاء الشيوخ الإصلاحيون. من بين المسائل التي طرحها:

- هل الدين يحرم الإقراض بالربا وتعاطي الكحول؟ كان العلماء (الإصلاحيون) يتسامحون في تلك المسائل.

- هل الدين يحرم التجنس ولبس القبعات؟ كان العلماء (الإصلاحيون) يسمحون بذلك.

- هل الدين يشرع تلاوة القرآن في الجنازة؟ كان العلماء (الإصلاحيون) يعارضون ذلك ويحاربونها.

- هل يزكي الدين بتعظيم الأنبياء والأولياء واحترامهم؟ وهل يجيز بطلب شفاعتهم؟ كان العلماء (الإصلاحيون) يكفرون كل مؤمن يفعل ذلك ...

كان الشيخ بن عليوة يعتقد أن الإسلام لن يتجدد على يد هؤلاء الإصلاحيين حيث لم يعد يريد أن يرى فيهم أي شيء سوى أنهم أشخاص لهم طموح بدون أي روحانية حقيقية انتصر لهم الزمن. ومن جهة أخرى كان الشيخ بن عليوة يخاطب ضمير الناس الذين أحبهم بعمق والذين تمنى صحوتهم الدينية, ولكن كان المانع الآخر بينه وبين الجماهير هم أولئك شيوخ الزوايا التبركية الذين حاربهم مرارًا وتكرارًا. قدم لهم مشروع حملة إسلامية لإحياء النفوس المخفقة. ففي عدة مناسبات, نشر في جريدة البلاغ نداءه المدوي (اقرأ مقاله: إلى مشايخ التصوف وأرباب الزوايا).

لكن مبادرته لم يكتب لها النجاح. إذا تمكن للحظة من توحيد شيوخ الطرق الصوفية ضد الإصلاحيين, فإنه سرعان ما كان يشعر بالحسد من طرف نفس شيوخ الطرق الذين ينتابهم القلق بشأن التطور الكبير الذي تحرزه طريقته. في نداء أخير له بوتيرة رائعة, يشوبها في نفس الوقت الحنين إلى الماضي والافتخار به وخيبة أمل الحاضر (اقرأ المقال: إليكم يا مشايخ الزوايا).

بقيت عقيدة الشيخ بن عليوة, باستثناء بعض الشعائر, على المذهب الأشعري. لا أحد أفضل منه عرف كيف يوفق بين التوحيد الخالص لله في الإسلام وبين عقيدة الواحدية التي طالما انتقدت وما تزال. لماذا نغير العقائد؟ إنها ضرورية للإنسان, مبجلة تبجيلا عظيما منذ قرون, وعلى أية حال, فإنه يتم إحيائها وتجديدها باستمرار من خلال التفسير الباطني الغالي على الشيخ بن عليوة. وإلى جانب ذلك, ألا يشهد الإنسان تطور في ذاته؟ إنه يؤكد باستمرار أبدية الحق في تحوله نحو هاته العقائد.


ترجمة حصرية ولأول مرة إلى العربية (درويش العلاوي) أشأع - أحباب الشيخ أحمد العلاوي.





تعليقات