شد الشيخ العلاوي رضي الله عنه الرحلة لسياحته الطويلة الكبرى لبلد المغرب الأقصى (سنة 1924م, 1343هـ) والتي كانت زيارته الأولى للديار المغربية, حيث زار فاس ومكناسة الزيتون وسلا والرباط والدار البيضاء ومراكش, واجتمع في هذه المدن بكثير من علمائها وشيوخها وصلحائها.
وصحب معه في هذه السياحة (الشيخ محمد بن خليفة المدني) والشيخ سيدي الحاج صالح بن عبد العزيز القادري البغدادي, والشيخ سيدي الحاج عدة بن تونس, وكانا منشدين للشيخ وقته, فقال لهما: "إننا سنذهب لمدينة فاس وهناك منشدون لهم نغمات وألحان وأصوات حسنة ويحفظون الكثير من أشعار الصوفية, فاثبتوا ولا يهولنكم ذلك فتضعفوا ويضعف ريحكم".
فلما خرج رضي الله عنه كانت أول مدينة مغربية نزل بها هي وجدة, فاستقبل من طرف أهلها بالحفاوة والإكرام فمكث بها أياماً.
ثم مر الشيخ العلاوي على مدينة بركان, وكان في ضيافة القائد الحاج محمد المنصوري. فلما خرج من عنده خطر بباله زيارة مريده المأذون بالتربية والإرشاد الشيخ سيدي محمادي بلحاج الطاهر, وكان وقتها مسجونا في مدينة مليلية عند حكام الإسبان (حيث ابتلاه الله تعالى بمحنة السجن دام فيه نحو سبع سنوات ونيف) , فقال له الإخوان إن المسافة طويلة فعدل عن ذلك.
ثم توجه نحو مدينة تازة, فلما دخلها قصد الزاوية الدرقاوية فوجدها مقفولة فقال لرفقائه: "سيروا بنا فإن سلعتنا لا تنبت هنا".
ثم توجه إلى مدينة فاس, فلما وصلها نزل بها ضيفا على مريد له وهو في نفس الوقت مقدم الطريقة العلاوية بفاس, اسمه سيدي عمر اللبار.
فسمع به علماء فاس فاجتمعوا بشيخ الجماعة وقتهم العلامة سيدي أحمد بن الجيلالي الأمغاري, فقالوا له: "سمعنا أن الشيخ سيدي بن عليوة نزل عند سيدي عمر اللبار فنريد أن يحضر عندنا لنجتمع به", فساعدهم واتفقوا ألا يسألوه عن شيء ولا يكلموه وأن يجالسوه بأدب واحترام, فاستدعوه لمسجد القرويين فلبى دعوتهم.
فلما حضر وقد غض المسجد بالعلماء والتجار والعامة والخاصة قاموا لزيارته والسلام عليه فجلس في المحراب وشيخ الجماعة بجنبه, فكان أول سؤال ألقاه عليه حديث رسول الله والذي يقول فيه "أعوذ بك منك ", فلم يتم الحديث امتحاناً له, ليعلم هل له علم بالحديث أم لا, فقال له الشيخ العلاوي أتمم الحديث: لا ملجا منك إلا إليك", ثم تتابعت الأسئلة والأجوبة, وفي النهاية قال له شيخ الجماعة: "مرحبا بكم يا سيدي إن العلماء الحاضرين يلتمسون من سيادتكم أن تشرح لهم سورة الإخلاص", فأنعم بذلك فصعد المنبر وشرع في تفسيرها عقب صلاة العصر إلى أن سمعوا نداء المغرب, فأتى في ذلك بما أدهش العقول من العلوم والمعارف, فطالعهم ما لم يتقدم لهم به علم. وقد أخبرنا الشيخ سيدي الحاج صالح بن عبد العزيز القادري البغدادي قال: " رأيت بعض العلماء شاخصين فيه بأبصارهم حتى غابوا عن عقولهم". كما أخبرنا العلامة الفقيه القاضي العلامة سيدي الحاج العربي الورياشي رحمه الله تعالى قال: "كنت حاضرا لشرح الأستاذ العلاوي سورة الإخلاص في مسجد القرويين وكنت أسمع ولا أدري ما يقول, حتى ظننت أن كل العلماء الحاضرين مثلي لا يفهمون ما يقول", ثم ختم الدرس رضي الله عنه ودعا مع الحاضرين عموما وخصوصا.
فقام شيخ الجماعة سيدي أحمد بن الجيلالي فقال: "أيها الحاضرون, إن هذا الرجل الذي سمعنا منه هذا الشرح قد انطوى فيه سر أولياء الله الصالحين, والآن فمن كان على الطريقة القادرية, فهذا هو الشيخ مولاي عبد القادر, ومن كان منكم على الطريقة التيجانية فهذا هو الشيخ التجاني, ومن كان منكم على الطريقة الدرقاوية فهذا هو الشيخ الدرقاوي فخذوا عنه". فلما سمع منه الحاضرون قاموا وأخدوا به وجعلوا يزورونه ويطلبون منه تلقين طريقته والتجديد عليه, فأخذ عنه في ذلك المشهد أقوام لا يحصون كثرة.
ثم استدعاه أحد تجار فاس ووجهائها اسمه الشيخ العطار وحضر الحفل أكابر العلماء والشرفاء والعباد وبعض المجاذيب, فكانت الليلة من نوادر الدهر ذكراً وإنشاداً صوفية وأمداحاً نبوية مناوبة بين المنشدين الفاسيين والعلاويين, ثم تفرد المنشدون العلاويون بإشارة من شيخهم العلاوي خرجوا بالقصيدة الجديدة مطلعها:
عَروسُ الحضرَة تجلَّت --- بالبهاء مُذ تدّلت
مثل عذرا قد تسلّت --- بالصهباءِ والغنا
فهي قصيدة طويلة كانوا ينشدون بها إلى أخرها, وكان أحدهم يقول نصف البيت والأخر يختمه, فتلونوا فيها على ثلاثة صيغ, فلما سمع الحاضرون لهذا الكلام الجديد للسان الحقيقة تعجبوا وتحلوا. وفي النهاية تكلم الشيخ العلاوي مع الحاضرين حيث قال: "سادتي ما تقولون في صاحب هذه القصيدة؟", فكان جوابهم خاضعين له.
وفي أثناء الحفل جاء بعض المنكرين يريدون امتحان الشيخ, فجلسوا آخر الحاضرين فاتفق معهم صاحب المنزل ألا يكلموه ولا يسألوه عن شيء لما علم منهم الإنكار, فلما رآهم الشيخ قال: "سادتي الكرام ما جئناكم إلا لأجل أن تكلمونا ونكلمكم, وتسألونا ونسألكم", فرفع المنكرين الملاحظين أياديهم يريدون السؤال, فاستقربهم الشيخ حتى جلسوا بين يديه, فقال لهم "هل لكم سؤال؟", قالوا: "نعم", قال: "وهل أقول لكم أنا قبل أن تسألوا أم تسألوا أنتم قبل أن أقول؟", قالوا: بل قل لنا أنت", فنادى بأعلى صوته : "سادتي الحاضرين الكرام, إن هذه الطريقة التي نحن عليها وهي الطريقة العلاوية الدرقاوية الشاذلية, هي طريقة مؤسسة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, ومبنية على الاستقامة والعمل الصالح, فهي ليست طريقة أخذ الحيات ولا أكل الحشرات أو أكل النار أو ضرب الرؤوس بالحديد أو اختلاط الرجال بالنساء, ما هي إلا طريقة العبودية لله تعالى والوقوف على حدود الشريعة". فلما سمع مقالته أولئك المنكرون الملاحظون قاموا إليه وقبلوا يده وقالوا: "هذا والله الذي كان في ضميرنا نسأل عليه فقد شفيت لنا الغليل".
ثم تابع سياحته إلى مدينة مراكش, وقد سمعت أن الشيخ سيدي محمد بن الحبيب البدوي الدرقاوي هو الذي كان يرأس السياحة بالمغرب بإذن من الشيخ العلاوي حتى رجع إلى مدينة مستغانم رحمهم الله جميعا.
درويش العلاوي
تعليقات
إرسال تعليق